ليلة ودنة

حينما دخلت مكتبته، أبصرت بنياناً بلا جدران – أو هكذا خُيل إلي- على ارتفاع الجدار وعرضه تراصت الكتب وكأنها جزء من تكوينه الصخري، مجلدات من أنواع شتى بعضها متفقة الحجم واللون، وبعضها متباينة، وفي إحدى الأركان، كتب رُصّت بشكل أفقي؛ لضيق المساحة.

بعد أن أبلغته بدعوة والدي له إلى وجبة الغداء غداً، بقيت فاغراً أنظر في المكتبة، ورائحة الورق تتسلل إلى أنفي كرائحة (جذور الملوخية). لاحظ وقفتي الطويلة فتنحنح ليعيدني من تحليقي، التفتت إليه مغموراً بوهج الدهشة وسألته:

هل قرأتها جميعاً؟

ضحك في حنو و رفع نظارته بيده اليسرى عن وجهه؛ فشعرت بسطحية السؤال وسذاجته فاستدركت قبل أن يتكلم :

أقصد هل هي جميعاً لك؟

نعم بالطبع لي!

قربت وجهي من أحد الأرفف أتهجأ الحروف الذهبية المتلاشية من ملامسة الأيدي، قرأت الاسم ثم سألته:

ماهي ليلة دونة؟

ضحك حتى كاد أن يسقط من كرسيه، ثم قال مصححاً:

كليلة ودمنة

ماهو كليلة ودمنة؟

حيوانات من بنات آوى

يحكي قصة حيوانات؟

نعم

يبدو قديما؟

نعم قديم جداً، كتب منذ ألف عام.

أوووه حينما كانت الحيوانات تتكلم؟

من أخبرك بذلك؟

أمي تقول أن الحيوانات كانت تتكلم قديماً.

نعم حينما كانت تتكلم (قالها مسايراً عقلي).

ألتفتت أتامل بقية ملامح المكتبة، شاهدت الأوراق الملقاة على الأرض، و الكتب المكدسة فوق الطاولة الخشبية وبجوار فراش نومه.

كان المنظر يشبه حكاية أسطورية، والجو مهيب كمعبد مقدس، قلت له:

منذ متى وأنت تجمع الكتب؟

ابتسم لأسئلتي المتلهفة وأجاب:

منذ أن كنت صبياً.

لأنك لم تكن تمتلك تلفازاً؟

بل امتلكت ماهو أفضل من التلفاز، هل شاهدت روبن هود؟ أو آوليفر توست؟

نعم وأحبهما كثيراً.

لقد شاهدتهما قبل أن يدخل التلفاز إلى البلدة

كيف!

قرأتهما و شاهدتهما في رأسي، لقد تفننت في رؤيتهما، وألبستهما كما أريد، ورسمت على وجوههم التعبيرات التي تقنعني، وتحررت من عقل مخرج التلفاز.

لم أفهم ماهو عقل المخرج ومع ذلك شعرت بالغرق في كلامه وكأني أسبح في سحابة بعيدة، أخذت نفساً عميقاً وقلت:

تقرأ كثيراً؟

معظم يومي.

يقولون في المدرسة أن الذي يقرأ كثيراً يصاب بالجنون.

شعرت بالخجل من الضحكات التي انطلقت منه بصورة مباغتة، واحمر وجهي، خشيت أن يظن أني أتهمه بالجنون.

هل عثرت على رجلٍ فقد عقله من الكتب؟

لا أدري

لم يحدث ذلك يابني، هذه مقولة أشاعها أصحاب المطاعم لملء جوفك بالطعام بدلاً من عقلك، الجنون الذي يصيب القارئ ليس من الكتب، بل لغباء البشر، حينما تقرأ ستصبح حاد الذهن لن تعود ذلك الأحمق مجدداً ولن تطيق العيش مع هذا العالم المجنون، وحينها سيقولون أنك جننت.

ثم سكت ونظر إلى مكتبته سارحاً، شعرت بالإبطاء عن والدتي وتأخري في المكث عنده فحييته مودعاً و انصرفت أركض مسرعاً و قبل أن أصل إلى الباب التفتت وقلت له:

هل تعيرني (كليلة ودمنه).

تمت

السبت: 1437/6/3 هـ

2016/3/12 م 

الخامسة مساءً

4 رأي حول “ليلة ودنة

أضف تعليق