لم أقرأ يوماً لأتعلم ..

في صباي نشأت بحي شعبي يتجمع الناس بداخله في تكتلات وفقاً لصلاتهم العائلية وقرابتهم، وتتحدد مكانة الفرد وسطوته بعدد أقاربه، فالمزعج أنور مثلاً يتلفظ على الجميع ذهاباً وإياباً ولا يقترب منه أحد لأن العصابة المكونة من أشقائه وأبناء عمه ستفتعل معركة دامية.
كنت أكبر أولاد أسرتي والذكر الوحيد في أقربائي ولذا كنت الأضعف بداخل الحي. شاركني ضعف الموقف صديقي “وليد”، الذي كان يصغرني بثلاثة أشهر وليس لديه من الإخوة إلا شقيق يكبره كثيراً ويقضي عامة يومه خارج الحي، كان شقيقه ذا قامة فارعة يلقبه الجميع بالزرافة، هادئ الطباع، يبتسم بشكل محير يصعب تفسيره.

اشتكى وليد إلى الزرافة بعد أن فقد الصبر عن تعرضه للضرب من أحد مدللي العصابات، جاء الزرافة بمنتصف العصر أثناء مبارة محتدمة بين فريقين والغبار يحجب كل شيء، دخل الملعب ووقف على رأس السمين المتغطرس وسأله: أنت فلان؟ كنا نترقب طلب “الزرافة” أن يترك السمين إيذاء شقيقه، لكن الفتى حينما رد بالإيجاب ارتفعت يد الزرافة عالياً حتى لاحت للجميع من فوق سحابة الغبار ثم هوى على وجهه المكتظ بصفعة لا تنسى غطت وجه الوقح الصغير. انصرف الزرافة عائداً ولم يستطع أي أحد أن يعترض طريقه. حينما استوعب الموجودون ما حدث صرخ أنور” أوف، خبز وجهه” لم تعد الأمور منذ تلك اللحظة كما كانت، لم يعد أحد يمس وليد بأذى، وأصبح الملطوم يلقب ب” الخبزة” وانفردت أنا بالوصف الشهير ( ماوراه ظهر). في المدرسة لم يكن الحظ أكبر، فمكانة الأشخاص فيها بعدد أفراد الحي بداخل المدرسة، وكنت لسوء حظي منتم لمدرسة لا أحد ينتسب إليها من أبناء حينا لأنها الأقرب إلى عمل والدي.

علاقتي بالحي والمدرسة جعلتني التصق بمرافقة أبناء عماتي الكبار، الذين يكبرني أصغرهم بثمان سنوات، فارق السن جعلني ابن الخال المشاغب الذي يرسلونه إلى البقالة البعيدة لشراء السجائر والساندويشات وإرسال الثياب إلى المغسلة، وحينما لا يصبح لديهم ما يقوم به يتنمرون عليه ويستمتعون بالسخرية منه!
أثناء سنتي الأخيرة بالمرحلة المتوسطة انغمست عميقاً نحو شعور بغيض بالوحدة، وقضيت عاماً كاملاً منكباً على سماع الأغاني في الإذاعة ومشاهدة المسلسلات بصالة منزلنا واختراع بطولات خيالية سأرتكبها يوماً.

في يوم خميس لا أنساه قبل عقدين من الزمن استعرت كتابا من كتب التاريخ الإسلامي وشرعت اقرأه عصر ذلك اليوم، رحلة ساحرة خالدة استمرت يوما كاملاً اندفعت إليها بلا توقف إلا للنوم أو الطعام. قبل غروب الشمس يوم الجمعة انخرطت في بكاء لم أبك مثله من قبل أو بعد. كيف لمشاغب تمرس على مقاومة الألم ويستخدم السخرية سلاحا لمحاربة الحياة. أن يبكي بهذا الشكل لأجل قصة في كتاب قرأها قبل ذلك عشرات المرات!

لقد كنت أبكي وحدتي وشعرت يومها أني وقعت على نفسي. منذ ذلك العويل لم تفارقني الكتب لحظة، مررت بظروف كثيرة تبدل فيها مظهري وسلوكي وعشت في أماكن متباعدة لكن الثابت الوحيد أن الكتاب كان مرافقي، وأهم الأغراض في حقيبتي، وأول قطعة أثاث تقف على قدميها في غرفتي، وكانت المكتبات هي المعلم الأهم الذي أبدأ بزيارته في المدن التي سكنتها.
كل ذكرى في حياتي بداخلها كتاب، وكل كتاب في حياتي بداخله ذكرى، أتحسس جوعي إذا رأيت زهر الآداب للحصري، وأتحسس قلبي إذا قرأت أدباً لاتينياً وأشم رائحة البارود وأسمع الصواريخ كلما قرأت دوستويفسكي، لم أقرأ يوماً لأتعلم، كنت أقرأ لأهرب من وحدتي!

6 رأي حول “لم أقرأ يوماً لأتعلم ..

  1. لا أعلم كيف أصف تلك المشاعر التي اختلجت بداخلي منذ أول حرف حتى وصلت إلى النهاية شيء ما يجعلنا نقرأ مثل هذه التدوينات باندهاش لذيذ وأظن أن الكاتب حين يصل إلى أن يشعر القارئ أنه عبر عما في داخله فقد أبلغ وأجاد
    كثير منا هو ذاك الذي كانت له القراءة عزاءا روحيا أكثر مما كانت مصدرا للمعرفة
    شكرا لك يا جميل .

    إعجاب

  2. قرأت مرة أن الأنثى تبرر عزلتها بالقراءة لكمال المرزوقي، ووقفت أمام العبارة حزينة ومتألمة لأنها تمثل واقعي، صحيح أنني أحببت الكتب والقراءة لكنها كانت وما زالت هروبا من العزلة والوحدة الخانقة والابتعاد عن الصوت المزعج للبشر إلى صوت أكثر رفقا وهدوءا لمن في الكتب…
    اليوم قرأت كتابا مفيدا جدا وممتعا أيضا وظللت أتساءل عن سبب قراءتي له، فألحت علي إجابة واحدة وهي تمضية وقت، حقا لم أقرأ يوما لأتعلم بل لأهرب من وحدتي وبالرغم من هذا تعلمت بفضل الله…

    إعجاب

  3. كنت أقرأ ليس هروبا من الوحدة ولكن هروباً إلى الوحدة والعزلة من مجتمع فرض عليا قدرا ولكني وجدت في الكتب ضالتي وعائلتي ومن يشبهني
    خصوصاً عندما قرأت صحيح البخاري ومسلم. شعرت إني أعيش وسط رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يحدثوني ويعلموني

    إعجاب

  4. أحسنت الوصف ووفقت ببلاغة في التعبير عن مشاعر كل وحيد هداه الله إلي القراءة فصارت له دربا ورفيقا لايخذله أبدا

    إعجاب

  5. أظن قسمًا كبيرًا منا بدأ القراءة بهدف الهروب من الوحدة. فشخصٌ انطوائي مثلي (وضعيف البُنية الجسدية) لم يتمكن من الانخراط فيما انخرط به أقرانه، فكانت قصص بطولات القادة المسلمين خير سندٍ له.
    شكرًا صديقي..
    شكرًا على كل حرفٍ كتبته

    إعجاب

أضف تعليق