ثلاثة كتب وملاحظة تأملية

لأجل قياس حالتي المزاجية كنت أتابع مجموعة من سلوكياتي، مرة تابعت نومي، ومرة تابعت نشاطي الحركي وقدرتي على إنجاز المهام، ومرة تابعت مستوى الفكاهة والضحك عندي، لكني في النهاية وجدت أن أدق ما أستطيع به قياس حالتي المزاجية والنفسية هو نشاطي القرائي.
بالأيام القريبة الماضية حصلت لي فرصة قراءة ثلاثة كتب وهذه التدوينة ستكون شبه مراجعة لها.



قال أحد أصحابي – والعهدة عليه- رحلة الطيران لا تنسى في ثلاث حالات أن تقرأ كتابا جيدًا، أو تنام كالأطفال، أو تجلس بجوارك فتاة تستلطفك.
كنت محظوظا بإحدى هذه الحالات صباح الجمعة الماضي فطوال رحلتي الأسبوعية القصيرة لم أرفع عيني من رواية ستونر عدا لحظات قليلة ألتقط فيها صورة للسحاب أو أصب لنفسي قهوة أو أتمغط في مقعدي الذي يشبه كراسي التعذيب. بل الأكثر من ذلك أني بطريقي من المطار إلى قريتي لم أتمالك نفسي وأخرجت الكتاب لأقرأ صفحة أو اثنتين وأنا أقود السيارة وحين وصلت لم استطع النوم حتى انتهيت من قراءة الرواية كاملة في 12 ساعة غير متصلة. وأنا كنت أظنني كبرت على التعلق بالكتب بهذه الطريقة التي تشبه الوقوع في الحب.
كتبت كتابة عاطفية عن ستونر في المدونة هنا بعنوان “صديقي العزيز ستونر” وقلت عنها في مكان آخر:

حين تهزمك نواياك الطيبة وقراراتك الصائبة لصالح الأوغاد في الحياة. هذه الرواية عزاء للخائبة آمالهم. وعند الانتهاء منها، سيضاف لأسماء رفاقك صديقًا جديدًا اسمه (ستونر). من أجمل ما ستقرأه.

لكن هذه الكتابتان أقرب للعاطفة منها للمراجعة أو الكتابة النقدية، وأعتقد أن الرواية تستحق أكثر من هذا.
ستونر من الأعمال التي لن تستطيع الغض من براعتها وجودتها حتى وإن لم تعجبك – مع أنها ستعجبك 😎- وهي واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها والتي لا أتردد حين أشيد بها لعلمي أن جودتها تتخطى ذائقتي الشخصية>
أهم ما يميزها أن الشخصية بنيت فيها بناء متدرجا في نفس القارئ كما بُنيت في الواقع وهذا الإتقان أعفى الكاتب من الجهد في تفسير مشاعر الشخصية ولم يكن محتاجا لبذل الجهد في الإبانة عن ما في نفس الشخصية لأنه أقام في نفس القارئ من الحساسية التي تجعله يتصور كل ذلك بلا شرح.
بالإضافة إلى واقعيتها الملموسة بشكل لصيق بحياة الإنسان في هذا العالم بمشاعره وحياته وآماله وخيباته، ففيها مساس لمشاعر القراء بما ضمنه المؤلف من حوارات تأخذ الطابع المعرفي تجعل ستونر واحدة من أجمل الروايات التي لن أتردد في العودة إليها مرة أخرى.
وبالمناسبة أنا أقرأ هذه الرواية مع أصدقاء في نادي كتاب الجمعة ومن يود المشاركة والانضمام إلينا فهذا حساب النادي على تويتر


الكتاب الثاني نظافة القاتل لإيميلي نوتومب وهذه القراءة الثالثة أو الرابعة لإيميلي، وأنا متناقض قليلا في الحكم على هذه الرواية فمن ناحية الأسلوب هناك الشخصية الكلبية التي صورتها الكاتبة بشخصية عجيبة وغريبة ومعتوهه لكنها مثل الشخصيات المجنونة لو خففنا من حدة الجنون فيها سنجد أن لديها الكثير من الأشياء الحقيقية التي لا يريد أحد الحديث عنها مع الكثير من الترهات بالطبع، لم أستطع كتمان ضحكي وأنا أقرأ بدايات الحوار بل إن أحد الجالسين في الصالة جاء ليتأكد إن كنت أخفي هاتفي في كتابي وأضحك على شيء أشاهده.
لكني مع ذلك بحاجة لتنبيه القراء أن هناك الكثير من البذاءة وما قد يراه بعض القراء أسلوبا قذرا في الحوار. بالنسبة لي وجدت الحوار ممتعا، التحدي الذي استطاعت إميلي البراعة فيه هو أن كامل السرد مبني على الحوار بلا فواصل ومثل هذا النوع من الكتابة تحد كبير أعتقد أنها برعت فيه.
من الناحية الفنية هناك لدي ملاحظات على خط الأحداث ورتابته وقلة الجهد المبذول عليه من قبل الكاتبة بالإضافة إن انتقال الأحداث في الجزء الثاني غير مستساغا بالنسبة لي وفي ظني أن الأسباب التي ظهرت في آخر الرواية التي جعلت الشخصية تأخذ هذا المنحى من السلوك والتفكير غير منطقية لكن الجو الغرائبي للأحداث والأسلوب والطريقة يجعلها أقرب للصورة الساخرة الرمزية منها للواقعية.
الترجمة مقبولة وإن كان الصف في مثل هذه الروايات يستلزم الكثير من الدقة لاعتماده على الحورات.
لا أستطيع أن أقول أنها سيئة ولا أستطيع القول أنها مبهرة لكنها بالنسبة لي ممتعة وجميلة وأعجبتني وأعادت لي رغبة القراءة للكاتبة بعد فترة طويلة من الانقطاع عن كتبها.

آخر الكتب مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام لجورج طرابيشي
طرابيشي باحث موسوعي متميز في كتابه هذا يناقش الفكرة التي تقول أن العقل المسيحي تلقى الفلسفة بالترحاب ولذلك ازدهر وأن العقل الإسلامي حارب الفلسفة ولذلك كانت سببا في تخلف العالم الإسلامي.
وبنى هذا الكتاب على :
مقدمة توضح أن خطأ جعل الغرب هو المركزية في هذه الجدلية تاريخيا وتناقض ذلك من الناحية الموضوعية وهذه المقالة في أول الكتاب من أجمل فقراته.
ثم أتبع المقدمة بمناقشة طويلة للشطر الأول المتعلق بأخذ العالم المسيحي للفلسفة سرد فيها التاريخ المسيحي وتدرجه للوصول إلى القطيعة التامة مع الفلسفة والمناوئة التامة لها إلى حد جعلها وصمة للوثنية في التصور المسيحي العام
ثم أتبع هذا الفصل بفصل ثانٍ بناه على تتبع تاريخ الممارسة الفلسفية في العقلية الإسلامية انتهاء إلى وصول الفلسفة لأن تكون مرادفا للزندقة في المفهوم الشرعي.
ثم ختم بستة صفحات يلخص فيها ما قد يكون نظرة له إلى الموضوع.
ما أود قوله هنا أن طرابيشي الذي أعجبني بقدرته العالية على فهم التراث واستيعابه في كتابه ” مذبحة التراث” كاد أن يغيب هنا تقريبا وأعزو ذلك لأنه حاول إعمال تفسيراته الدقيقة لمسائل متخصصة في مواضيع الاعتقاد والاجتهاد والتفريق بين العقائد والفقهيات وعدم استيعابه للتفرقة بين جانبي الاجتهاد العقدي والاجتهاد الفقهي وعلاقة العقل بكل منهما، كذلك بعض الاجتهادات التفسيرية إما التسييسية أو الثورية.
بالإضافة إلى أنه يعتمد إعتماد كليا على إيجاد التطابقات بين الأورثوذكسية المسيحية وما استقر عليه المذهب الإسلامي في عموم بلاد المسلمين دون فهم كيف استقر هذا المذهب على هذا الوجه، وهذا ما جعل كثير من الثغرات التفسيرية تظهر في بحثه.
على العموم الكتاب أشبه بالمقالة الطويلة أو البحث القصير لا يتجاوز 126 صفحة من الحجم الصغير، ومكتوب بلغة بحثية جيدة.


مع كون الكتب السابقة قرأتها خلال أيام فقط إلا أن كل واحد منها صورته في بلد مختلف عن الآخر، والأول والثالث منها بدأته في مكان وانتهيت منه في مكان آخر بعيد تمامًا ولأجل هذه الرفقة الرائعة التي تخفف وطأة الحياة أنا ممتنا للكتب .

استعدادا لاستقبال الشتاء قررت أن أضع لي خط قراءة طويل الأجل غير محدد بوقت للأعمال المتسلسلة أو الضخمة وببالي منها حاليا:
-البحث عن الزمن المفقود
– رباعية نابولي
– كفاحي لكارل أوفه
– رباعية هاروكي موركامي
– الإخوة كارمازوف
– الحرب والسلم.
وسيكون البدء بكونت مونت كريستو عسى أصمل.

رأيان حول “ثلاثة كتب وملاحظة تأملية

أضف تعليق