14 شهرًا بلا وسائل تواصل.

– تقدر تجيب لي مقالات مونتين؟
– ابشر لكن للحين ما أصدروها معنى.
– لا أنا أبي طبعة التنوير
– طبعوها التنوير ؟
– إيه يا الراقد ما تدري عن شي وأنت حاذف تويتر.

يلومني أحمد على فكرتين باستمرار، الأولى حذفي لوسائل التواصل، والثانية اختلاق أحداث لم تحدث في تدويناتي، مع أن لدي الكثير من الأحداث -حسب تعبيره- التي أستطيع الكتابة عنها بصدق. سأحقق لأحمد إحدى أمنيتيه وأتكلم ” بصدق” هذه المرة عن تجربة ترك وسائل التواصل.
مر على ذلك انقطاعي ما يزيد عن السنة لم أكن شجاعا لأقوم بذلك دفعة واحدة، ولا قويا ليكون ذلك بلا لحظات عودة، لكن انتهيت بتدرج إلى حذف كل تطبيقات السوشل من هاتفي، والاكتفاء بكتابة ما أريده في التلقرام أو المدونة أو الاستماع إلى صدى الأفكار في كهف رأسي، وتجربة التحدث بداخل رأسي أثبتت أن كثيرا مما كنت أشاركه في وسائل التواصل لا فائدة منه.
أكره أن أبدو في هيئة الجاحد الذي حين شبع من وسائل التواصل قال: يع ما أعجبتني، والحقيقة أن العيب كان بي أنا. عشت حياتي محبا للناس كارهًا لضجيج الجموع، أستطيع أن أتواصل مع الناس بلطف ومرح لكني آنس بنفسي، ضِعْفَ أُنسي بالجموع، يعزز سلوكي هذا انفصال بين عضلات وجهي ورغبتي في مداراة الناس، ودائما ما أعجز عن إخفاء السأم والضجر والنفور حين يحل بي.
منذ لحظتي الأولى في الانترنت وأنا قريب الصلة بالمواقع الثقافية، بل كان هدفي الأول من دخول الانترنت هو تحميل الكتب المقرصنة، لكن ولفترة طويلة كانت صلتي مع دائرة قليلة ممن أشاركهم الاهتمام، بالإضافة إلى متابعتي معظم الأسماء المعروفة والمثرية عن بعد وأدين لهم بالكثير ومازلت.
وفي لحظة اغتراب ووحدة وملل وقلة تواصل اجتماعي مع المحيط جاءت فكرة القفز المظلي إلى داخل التويتر والسناب وإزعاج العالم بثرثرتي.
شبيه بلحظة الاغتراب تلك جاءت إلي لحظة اغتراب مناقض، على إثر نوبة اكتئاب ثقيلة أطول من كل سابقاتها مع مشكلة عظيمة في عملي وتجربة عاطفية سيئة وضغط مهام كبير وشعور بعدم الرضا عن هجر القراءة لأكثر من 4 أشهر و ضياع الشحنات مع البريد، وألف كارثة وكارثة اجتمعت في وقت واحد، وتراكم رسائل ومحادثات كثيرة ، وصلتني الرسالة التي صفعت وجهي، من صديق يتحلطم عندي أثناء أداء عملي في وسط الدوام الرسمي ثم توقف ليقول “ليش ما ترد زين أكره طريقتك في التفاعل تقتل السالفة بحلق الواحد” وكانت هذه اللحظة التي لا عودة بعدها.
أمضيت بقية اليوم أعيد تقييم ما يحدث بعين حقيقية، وجدتني أحتمل ضغط وسائل التواصل والتفاعل الثقيل فيها، دون أن يكون في ما أصنعه أي فائدة حقيقية لي، وصرت في آخر سنة لي أقوم بكثير من المهام التي لا تلزمني لإنقاذ الناس وكأني باتمان، ولم تعد سنابات المثقفين التي أتابعها تحوي غير طرق إعداد المندي، ولقاء فلان بفلان، وتصبيحات وتمسيات تأخذ الكثير من وقتي، وتحولت التغريدات في معظمها إلى تسليك ومجاملة وتكرارا للكلام وحروب باردة بين الشلل.
واضطررت إلى مداراة محتوى كثير ضعيف وتافه بدافع المجاملة والعلاقات العامة – وصل عدد من أتباعهم في السناب شات إلى عدد ضخم جدا بسبب المجاملة – وأجبرت على التعامل مع أشخاص نكذب على بعضنا بالمداراة ثم نقع في غيبة بعضنا حين نفترق. نعم هذه حقيقة وأنا أستطيع قراءة وجه من يحب غيبتي، ومواقف غريبة أخرى مثل أصدقاء لديهم حسابات خفية في تويتر يشتموني منها ولا يدركون أني أميز أساليبهم ومفرداتهم وعباراتهم المفضلة، ومثل صديق ألتقيته وبعد أن افترقنا تحدث في السناب مستعيرًا أفكارًا ناقشتها معه على العشاء وحين انتهى عرض بي بما يشبه الشتيمة بطريقة حمقاء.
كل الأمراض الإجتماعية التي كنت أهجوها (كالاستعراض، والمحاباة، والتفاهة، والسطحية، وغيرها) صارت فعلًا مطروحا أمامي ومجبرًا على تقبله بل والاقتراب من ممارسته للمحافظة على العلاقة في هذا الوسط.
هذا العبء وأمور أخرى أهم وأكثر تأثيرًا ولدت بي رغبة المغادرة بلا خطط عودة، وحين أنظر إلى الخلف أجد أني خسرت الكثير بهذا الانقطاع، وفقدت التواصل مع عدد من الأشخاص الذين أحبهم وأحب ما يطرحون، وغاب عني الكثير من الأشياء التي أعلم أنها تهمني وتفيدني، لكني كسبت أشياء أهم، توثقت صلتي بأفراد العائلة والأصدقاء، وبدأت صلتي مع أبناء شقيقاتي لأول مرة، واتضح لي أن هذا التواصل عظيم في نفوسهم، صرت أنا وسيلة الشكوى الخطيرة لدى الفتيات في العائلة الذي يهددن به الأولاد الكبار، وأصبحت في ذاتي أكثر هدوءا وأربط جأشا، وعاودت اهتمامات اندثرت منذ انغمست في وسائل التواصل كالتدوين وصنع البانكيك وتتبيل الشاورما، وقراءة الروايات والوقوع في الحب، وبخلاف ما توقعت كان الانقطاع سبيلا للتخفف من صعوبات الحياة.
ما تعلمته من كل هذا أن الاتجاه إلى التخفف هو وسيلتي المناسبة للعيش الهانئ دون خسران ذاتي، والتركيز على ما أستطيع جني ثمرة كبيرة منه بجهد عادل ومتوازن، كما تعلمت أن من يحبك لن يظل محكومًا بقاعدة البعيد عن العين بعيد عن القلب، ما يزال أسامة الذي جمعتني به معرفة قديمة في الانترنت على صلة معي دون أن يملك أي حساب في وسائل التواصل منذ 2016، وكم أحب أسامة لذلك.
لم تكن وسائل التواصل عش دبابير لكني كرهت البقاء.

5 رأي حول “14 شهرًا بلا وسائل تواصل.

  1. “رغبة المغادرة بلا خطط عودة” الجملة المفضلة؛ التي لاتثقلك بحقيبة اجترار مالا يفسر. تجربة رائعة، أعيش ذات الفكرة – مع اختلاف التفاصيل بالطبع- منذ ٢٠١٣م، اعتدتها حتى صرت أو أصررت على : أنا التي ليس يعرفها أحد، أوالحد الأدنى من الآحاد.
    بالمناسبة، إن الانقطاع والتخفف من عبء الآخرين والترهبن أو محاولته على أقل تقدير، لذة رجال الكهف الأولى؛ التي كان لهم بها الحفاظ على المقدس بأمان، أو ربما التمسك بالذات حين يتناهشها بلا عمد أحيانا: الدنيا والناس، والنفس حين تمارس الهرب والخوف. موفق🌷

    Liked by 2 people

  2. ولأني أتشوّق لرؤية التعليقات على تدويناتي والتي لا تزورني كثيرًا، لكنني ما زلت انتظرها بكل مرة، سأعلق هنا لو كنت أنت بدورك تنتظرها.
    تجربتي مع الانقطاع عن وسائل التواصل كانت بنفس أسبابك، وبدلًا من سنابات الكبسات، كانت سنابات القهاوي، وكأن القهوة ستنقطع في هذه الثانية. سئمت من التكرار، التمثيل، الشرهات التي تهطل علي بدون مقدمات، الحرص على المشاهدات واللايكات، عالم افتراضي محض، قائم لكنه خفي بنفس الوقت، كثير ممن أحادثهم افتراضيًا يتحاشونني واقعيًا، خشية انكشاف تمثيلهم، مع أننا جميعًا نعلم الحقيقة إلا أننا نفضل دفنها. أو هم يفضلون دفنها.
    المفاجأة كانت بأن اكتئابي زاد، وهذا ليس ما سمعته عن الانقطاع عن وسائل التواصل.. تذكرت بأنني كائن اجتماعي من الدرجة الأولى، أحب الاستماع للناس، الأخذ والعطاء، أشحن نفسي من لقاءاتي المتعددة مع البشر، وإن لم تكن لقاءات فعليًا وإنما محادثات.
    عدت مجددًا لمنطقة الحرب، لكن أقوى، وضعت حدود ووضحتها للجميع، حذفت الكثير ممن لا يضيفون لي إلا التراهات، ولم أعد للمجاملة الزائدة عن الحد، وضعت أيضًا حد لاستخدام كل برنامج، وها أنا ذا، سنة كاملة بدون أي صداع من وسائل التواصل.
    تجربة مثرية، وأحرص على سماعها من كل شخص، لأنها تختلف كثيرًا، أسبابها ونتائجها، وأؤمن بفعاليتها لمدة معينة.
    أتمنى لك حياة واقعية والكترونية طيّبة بناءة.

    Liked by 5 people

أضف تعليق