يوم أحد عادي.

غيرت ترتيب جدولي وتركت شاهي المساء وعدت إلى عملي؛ بعد قيلولة غير معتادة، شعرت بنشاط – غير مألوف أيضًا – فاستثمرته بإنجاز بعض الأعمال المتراكمة في يوم الأحد الثقيل. لكن لم أنجز شيئا، اكتفيت بترتيب طاولة مكتبي وغسلت الأكواب من آثار قهوة اليوم، ومددت قدمي أتامل الجدار المقابل، في النهاية، وإن اختلف المكان، إلا أن العادة تفوقت، صنعت كوب شاي ومارست أجمل نشاطات اليوم –فهاوة المغرب- أثناء خروجي من مخرج الطوارئ المفضي إلى باحة المبنى الأمامية، قفزتُ فزعًا لرؤية قط أسود يستغل الفرجة ويمر سريعًا داخل المبنى. في أوقات سابقة، كنت سأتركه وأمضي في طريقي، لكن حضرني شعور المسؤولية الذي يصيبك مع تراكم الأيام، ثبتت الباب ورحت ألاحق القط حتى خرج، وكانت المهمة أيسر مما ظننت. أغلقت الباب خلفي ومشيت ممتعضًا؛ لأني مصاب بحساسية من جلود وفرو الحيوانات الحية ولكراهية تجاه القطط، كراهية غير مسببة تشبه المبادئ.

بعد خطوات، أرعبني مرة أخرى حين مر بين أقدامي؛ لم أتصور أن يلاحقني، ليس هو من القطط حديثة الولادة التي تلاحق الناس في الشارع؛ قبل أن تتعلم الفرار منهم فيما بعد، ولم يظهر عليه شكل قطط المنازل المدللة، خمنت أنه يلتصق بي لشدة البرد ويبحث عن الدفء بملاحقتي، أو أنه عالق في فناء المبنى وقرر التضحية وملاحقتي عن الاحتباس الطويل هنا. بعد خروجنا، شاهدته ينطلق مسرعًا نحو قطعة ورقية ملقاة ويتشمشمها تشمشم الجائع، فعلمت أي بلاء نزل به ورثيت له : وحيد، غريب، وجائع في جو بارد. وتذكرت على الفور بطل رواية الجوع لكنوت هامسون. بدأت القطة – وقد انتبهت تحت الضوء إلى كونها أنثى – في ملاحقتي وكأنها مدربة على مرافقة الآخرين، مشت أمامي من الجهة اليسرى، ثم بعد قليل أشرت إليها بيدي لتنعطف باتجاه التقاطع الأيمن، ثم بعد خمسين مترًا خرجنا إلى الشارع العام، وقلت لها : “اطلعي الرصيف لا تصدمك السيارات” وكأنها موقنة أن الكلام موجه إليها استجابت وانتقلت إلى الرصيف ومشت بجواري، ولأني منزعج من قربها أشرت إليها مثلما يشير رجل مرور ضجر للسيارات أن تتقدم، وفعلا تقدمت باستجابة عجيبة، عزمتُ الآن على السير إلى أحد مطاعم الرز البخاري المجاورة، وفي الطريق حاولت أن أتذكر هل كان لبطل رواية الجوع اسم أم تركه المؤلف مبهما؟!، ولم أستطع التذكر، إنها إحدى الشخصيات التي لا تنساها لكنك لا تتذكر اسمها وإنما تتذكر تجربته ، على خلاف مثلا دون كيخوته الذي يعرفه كثير من القراء ولم يقرأوا روايته أو بطل رواية البؤساء جان فالجان …. قاطعت القطة تفكيري بدخولها إلى أول محل مررنا به، وبقيت واقفا انتظر طرد الموظف لها وخروجها، لم يطل دخولها وعادت سريعا لنمضي في طريقنا، وحين اقتربنا من المحل الثاني همت بالدخول فقلت لها : “لا تدخلين”، ونظرت إلي طويلًا وكانت المرة الأولى التي تلتقي عيني بعينها فحدقت إليها وحركت رأسي وقلت “يلا!“ثم مشيت ولحقت بي. بعد معانة كثرة التوقف، وصلنا مطعم للرز والدجاج، دخلتُ وقلت للموظف:” انتبه لا تدخل القطة”، ثم طلبت لها نصف دجاجة مشوية وحين همت بالدخول، صاح بها العامل بعنف فقلت ” هيييه بشويش عليها لا تخوفها ” ونتيجة لهذ الشفقة مني؛ تهاون معها، فدخلت المطعم، وأحدثت جلبة كبيرة. تجولتْ بين الطاولات ودخلتْ بين أقدام الناس، والعامل مستمر يلاحقها، ثم انتقلت من صالة الطعام إلى خلف ثلاجات الماء والمشروبات الغازية وحينها استلمت نصف الحبة في صحن، سارع العمال في تجهيزه للتخلص مني ومن المصيبة التي حلت عند دخولي .

أخذتُ الصحن وذهبت إليها، طرقت بإبهامي وقلت لها : “تعالي” وبكل وداعة انطلقت معي خارج المطعم، وضعت لها قطعة الدجاج وبقيت انتظرها لتأكل، هوت برأسها تتشمشم الدجاجة وكأنها خائبة الأمل في الوجبة المقدمة إليها، ثم بدأت تأكل قليلًا وباستياء، مضيتُ وتركتها. بعد خمسين مترًا، التفتتُّ إليها لأتاكد، فرأيتها ما تزال مدنية رأسها من الصحن تأكل ولم تعاود الالتفات نحوي. ومضيت وحيدًا غريبًا جائعًا في جوٍ بارد.

3 رأي حول “يوم أحد عادي.

  1. ذكرتني بموقف حصل قبل أسبوعين، وجدت قطة قابعة في نافذتي، تنظر بشكل فارغ، لا تصدر صوتا، أقترب منها فلا هي التي تقترب ولا تبتعد!
    تعجبت من أمرها، قلت لها (مياو مياو هههه) لعلها تصدر أي رد فعل! ولكنها ما زالت تنظر لي نظرة ثابتة بلا حراك..
    أيقنت أنني لست أهلا لفهمها، واستعنت بالآخرين الأكثر تفهما، وتخيل! تفاعلت معهم! 🙂
    لا علاقة بين القصتين إلا القطة -أدري- 🤣

    إعجاب

أضف تعليق