بقايا مكياج على وجه المهرج


رأيت مرةً في لقاء عائلي طفلًا يجلس بجوار والده يسيل اللعاب على جانب وجهه، مفتوح الفم يتأمل أقاربه، وفي لحظة من لحظات الصمت التي تتوسط الأحاديث مد أحد الكبار إليه يده مشاكسًا هدوءه ، فانفعل الصبي بعفوية وعض يده، ثم ارتفع الضحك في المجلس من تصرفه، تفاجئ الطفل وغمرته الضحكات بإحساس الظرافة، وأعجبه الشعور فاسترسل في تصرفات يستجلب بها المزيد من الضحكات، بعد ساعة وفي غمرة تقمصه ثوب الظريف بصق في وجه أحد الكبار فلطمه والده لطمة أدهشته وانجلت له حقيقة أن تصرفاته أصبحت فجة لا تطاق، ولم يعد أي منها يجلب الضحك، وأزعجه أشد ما أزعجه شعور ثقله على النفوس، والغباء الذي ظهر في أفعاله ….
لا أبالغ حين أقول أن لدينا في حياتنا جميعا مواقف مررنا بها تشبه موقف الطفل، وضعتنا في وضع بائس أمام أنفسنا ، وأثارت حنقنا ودفعت غصة الخجل إلى أقصاها في نحورنا، نكبر على ثقة بنضجنا وتخلصنا من تلك السذاجة، لكن المؤسف هو استمرار هذا السلوك دون إدراك منا وقد تمضي الحياة بأكملها ولا نشعر.
أتابع مثقفا في إحدى وسائل التواصل كانت عفويته محببة ويتصرف بنوع سخرية لطيفة تجعل من يشاهده يبتسم لكلماته، وردود أفعاله، ونظرته، ونبرته، إلا أن صديقنا الطفل في الحكاية أعلاه تلبس هذا المثقف فبدأ يحسب نفسه الساخر العظيم، ولعل القراءة في كتب الساخرين جعلته يصدق انضمامه إلى حزبهم وهذه مشكلة أزلية لدى القراء أعرف صديقا في الزمانات اشترى كتاب كيف تتقن الأوفيس وهو لا يحسن تشغيل الكمبيوتر ولا يملكه أصلا المهم نعود إلى صديقنا الساخر فقد تطور حاله حتى اتخذ من السخرية شعاره ومن الاستهزاء بالأفكار والمؤلفين والأدباء والقراء ومن كل مظهر جاد: طبعًا له ثم ازداد به الأمر فأصبح يحاكي بعض مشاهير الساخرين على الإنترنت في عباراته وتشبيهاته وآخر ما بلغه حسبما أذكر أن أصبح يقول الكلمة السامجة الهزيلة ويضحك منها ضحك بائس يائس أو ضحك سكران يدغدغه مالا يعرفه.
لكن لا تظن أن سلوك الطفل السابق متعلق بالسخرية وحدها، بل يتطاول هذا الفعل حتى يطال بعض ممارسات الناس المعرفية والفكرية، يجد أحدهم فكرة جوهرية أصيلة لكنها فكرة فرعية في الحياة فكرة جميلة عظيمة لكنها لا تستحق أن يؤسس لها حزبا ديموقراطيا ولا أن يقوم بالدعوة إليها بالسيف في كل أنحاء البلاد وهي في أحيان كثيرة فكرة لا يهتم بها إلا قلة من البشر، لكن صاحبنا يتعلق بها ويعيد ذكرها ثلاث مرات في اليوم والليلة ويكتب عنها منشورا في الفيس بوك ويعلق بخصوصها في الساوند كلاود، وينشر سلسلة مسلسلة في تويتر عن هذه القضية التي تؤرقه ، ثم لا يقبل أن يهون منها باحث ولا قارئ ولا متثقف وتصبح أعز عليه من ماله وولده والناس أجمعين. كل هذا يسببه ضيق الأفق وشح الاهتمامات وانحصار الفكر وافتقار الإنسان إلى معارك ينتصرلها في الحياة باتساع المرء يتسامى عن التعلق بهذه النقوش الصغيرة والتصرفات الطفولية.

ودمتم سالمين

يمكنك متابعة جديد المدونة وأمور أخرى حسب الحالة المزاجية بالاشتراك في قناة التلقرام على الرابط

https://t.me/blogswarraq

رأي واحد حول “بقايا مكياج على وجه المهرج

  1. كلنا أطفال، نغترّ بمواقفنا البطولية في ساحةٍ ما..
    نُحاكيها كما يُحاكي مأخوذٌ دورًا سينمائياً جاذبًا، حتى يُحال الأمر عندنا إلى أن نمارس دعوة نفسيّة منظّمة لـ “ترسيم عفوياتنا” تلك في تربة أسرابنا .. ونتخيّل -كالأطفال المدهوشين- أنها ستكون (ثمرةً لَذّةً) لكل سيقان وأوراق طبائعنا وتصرفاتنا وسلوكيتنا المختلفة..

    ننسى أن التحرّكات النفسية الظريفة، لا تتّحذ تجلّيها الأمثل فينا إلا حين تصدر عن أنفسنا
    “صدور الضوء عن الشمس”

    حتى في عفويتنا.. نحن مأخوذون!

    إعجاب

اترك رداً على شروق.. إلغاء الرد