حنينٌ إلى نغمٍ ريفي.

كل محرضات الشعر أمامي ومن حولي .. ولكن لا شيء يحرضني على الكتابة إلا الصغائر والترهات العابرة والمفاجآت المنزلية المباغتة .. كأن تندلق القهوة على ثيابي، أو أفاجأ بخطأ في فاتورة البقال أو الهاتف؛ لأنني أسجل ديوني وأقرأ فواتيري كما أقرأ الشعر.  (الماغوط)

عشت سنوات طفولتي الأولى في إسكان كبير جدًا قُسم إلى مربعات سكنية بحسب الرتب العسكرية لأصحاب البيوت، وتمتد المربعات مسافة بعيدة عن بعضها بالسيارة لكنها تتناقص إلى بضعة كيلوات إذا سلك الشخص على قدميه طرقًا مختصرة بين المجمعات.
في أحد المساءات قبل أن أبلغ السادسة، عزمت أثناء وجود والدتي بالمدرسة المسائية على زيارة قريب لي يسكن مجمعًا بعيدًا عنا. واستقر رأيي على سلوك طريق السيارات الطويل؛ لأنه الطريق الوحيد الذي تعرفه ذاكرتي الصغيرة، احتاجت خطتي إلى شريك فأغريت شقيقتي بالمغامرة متبجحًا بمعرفة الطريق، ولأن أصدقاء السوء يقدمون عروضًا لا يمكن رفضها؛ وافقت على مرافقتي. وسرنا كما تسير المركبات، من الحي إلى المواقف، ومنها إلى الشارع الفرعي، وصولًا إلى الطريق السريع، ثم مشيا على رصيف حذاء درب السيارات الدائر على المجمعات.

بطريقنا صادفت نخلة صغيرة تدلت منها عناقيد (بسر) خضراء اللون، فوقفت أشرح لمرافقتي أنه نوع من التمر وأن هذه نخلة فبالتالي هذا (بلح) وأننا لو أخذناه وتركناه في المنزل سيصبح أصفرًا فيما بعد، قطفت واحدة وناولتها لها وتناولت أخرى، وبعد قضمة صغيرة بصقت ما قضمته وألقيته على الأرض ثم نظرت إلى شقيقتي التي سبقتني إلى نفس الفعل، قدرت بسذاجة طفولية أن عدم استساغتي له لا يعتبر عيبًا وأن والدتي التي تحب البلح ستسر بها فالكبار دائمًا ما تطرب أمزجتهم الأشياء المريرة، اكتنزت أربع حبات منها في جيبي وأغلقت عليها جيدًا ثم أكملت الطريق. وقد لحظت أن المركبات تخف سرعتها عند محاذاتنا ويرن أصحابها بأبواق التنبيه وكنت أكتفي بالتلويح لهم مطمئنًا، أني بعيد عن الطريق.

بعد مدة انتهى سيرنا إلى النزول بوادٍ ذي صخور ونباتاتٍ وأشواك برية مستديرة تلصق بباطن القدم وقد كنا نمشي حفاة، غربت الشمس ونحن لم ننتصف الطريق وتنبهت حينها أن المسافات التي نقطعها مع أبي في دقائق قليلة أخذت منا قرابة ساعتين حتى الآن وفهمت لأول مرة أن المسافات تمتد حين نقطعها دون أهلنا، أردت أن أصل إلى بيت قريبي سالمًا وأكون بطلًآ يغض الطرف عن ذهابه دون استئذان. ولكني اضطررت للعودة مستسلمًا في منتصف الطريق نتيجة التعب والخوف وبكاء شقيقتي ونزول الظلام وتجرح أقدامنا من الصخور والأشواك.

وفي عودتنا توقف بجوارنا رجل اكتست لحيته بالبياض كان أحد أولئك الذين ضربوا لي أبواق التنبيه بل كان أكثرهم إصرارًا، وعند مشاهدته لنا بطريق عودته قرر التوقف مدفوعًا بالفضول وفائض أبوة ناجم عن غرابة وجودنا في هذا المكان، سألنا إلى أين نتجه فأخبرته بوجهتنا ورقم منزلنا واسم شارعنا ومكان حينا بشكل دقيق، ولكنه لم يأخذ كلامي على محمل الجد.

ذهب بنا إلى بيته ثم أجلسنا في المجلس محاطين ببناته الشابات ومد لنا حليب بارد وعصير برتقال وبقي يتناقش مع زوجته وبناته عما يفعل بنا، في النهاية أشارت زوجته بأن يذهب حيث أرشدته ثم يرى ويقرر بعد ذلك أن يذهب لمركز الشرطة أم لا، كنت كمن يشاهد فيلمًا سينمائيًا ويصرخ من خلف الشاشة على البطل ليخبره بما غاب عنه دون أدنى إستجابة، بقيت أجيب على أسئلة العائلة المدهوشة وأخبرت الأب أني شاهدته في عزيمة عشاء بمنزل جارنا أبو فلان ولكن الرجل لم يصدقني وأخذني كالمتشكك إلى حيث أُرشده وأخبرته عند وصولنا إلى المواقف البعيدة أنه يكفي عليه التعب حتى هنا وسأكمل بنفسي الطريق إلى المنزل لكنه رفض ونزل بنا ممسكًا في كل يد بأحدنا، وكنت أردد له “أعرف الطريق” ولكنه تجاهل كلامي مكتفيًا بالتحقق مني بعد كل مرحلة إن كان منزلنا في هذا الإتجاه.

دخلنا إلى حينا الأصغر وقد بدا ضاجًا على غير العادة في وقت صلاة العشاء كان الشارع مليء بالرجال والنساء، وأضيئت أنوار البيوت أكثر من المعتاد، وعند دخولنا رفق الرجل الغريب بدأ الجميع ينادي ويشير إلينا، فجاءت أمي فزعة وقد ارتدت عباءتها بطريقة فوضوية لم اعتدها وتسير نحوي بقدم حافية، لم أفهم لماذا بدت رثة هكذا ولم الحي صاخب، اقتربت مني ثم بادرتني بلطمة قائلة “وين رحت يا كلب” وسحبتني بأذني وأنا أصرخ “ما ضعت يا أمي ما ضعت كنت بروح ألعب عند محمد” أدخلتني إلى إحدى الغرف وضربتني ضربًا ممزوجًا بالخوف والقهر وهي تردد “ليش تروح وأنا ما أدري، ليش ليش” وبعد أن أخذتُ حصتي من النشيج والبكاء تذكرت أمرًا فأدخلت يدي إلى جيبي ومددتها لأمي وقلت “جبت لك شي تحبينه” فأخذتني في حضنها وبقيتْ تبكي مفرغة قلقها وهلعها على كتفي.

ومنذ ذلك الوقت وأنا أردد للناس “لست ضائعا أنا أعرف الطريق جيدًا” ولا أحد يصدقني.

فصل أول …

تروي أمي أني ولدت هزيلًا، مجهدًا، ذابلًا، قبل موعد ولادتي المفترض. جئت بعد 7 أشهر فقط قضيتها جنينًا في بطنها. وحين ولدتني كنت التؤام لأخت سبقتني إلى الوجود بخمسين دقيقة.

بهذا المأزق خرجت إلى العالم، ناقص النمو، ضئيلًا ومتعبًا، ومتأخرًا عن شقيقتي، فجمعت بين تعجلي اللامكتمل ، والتأخر في ترتيب الواصلين. وكانت أول مفارقاتي بالحياة.

ولدت شقيقتي أكثر صحة مني، وولدت على مشارف الخطر، ولذا لم تمكث شقيقتي سوى أيام في المستشفى، بينما بقيتُ في حضانة الخُدج موصولًا في كل جزء من أطرافي بأنابيب التغذية والتنفس والعلاج، وكان أمل أهلي في استمرار عيشي ضئيلًا. وبعد شهر ونصف من الدعاء والعلاج والنوم وحيدًا باردًا بداخل حجرة زجاجية مكعبة خرجت إلى العالم!

يربط فرويد ما يحدث للإنسان في حياته الراشدة بالغرائز والخيالات الجنسية، ولكن لو صح لنا أن نجعل أحداثًا حياتية حاكمة على تصرفات شخص راشد فسأجعل تجاربه الأولى على الأرض بذرة في بناء ذاته.

ولادتي إلى الدنيا على كف الخوف، وما عانيته في الأيام التي تلت ذلك صبغت حياتي ببصماتها التي لم تمح من نفسي، عشت كذئب وحيد أفتقد طول النفس وأقضي أيامي متثاقلًا عن إنجاز ما يجب إنجازه، وبتقدم العمر تكبر عادتي في ترك الأشياء إلى ساعة الصفر، وكأني أنتقم من مجيئي المبكر إلى هذا العالم بصنع الأشياء في لحظاتها الأخيرة.

تجاوزي لهذا الموقف عزز بداخلي رغبة النجاة. فقضيت حياتي محاولًا النجاة من الجهل، ومن الذوبان، ومن التفاهة، ومن الرضوخ، ومحاولة النجاة من الانسحاق تحت عجلة الوجود الصعب.

لو كان لي خيار إعادة تسمية نفسي لسميت نفسي (ناجي)

ورونا كشختكم

يستثير العيد قلقًا مخفيًا في نفوس المحبين، حيث يأتي في صورة الغاية من البهجة والمنتهى في التجمل والصلة المتجددة بكل أحد عدا المحبوب البعيد. يزداد القلق بتجدد أشكال الحياة الفرائحية في العيد، واستمرار الصلة بالمحبوب في رتابتها المألوفة. ويجترح العيد حزنًا نبيلًا في صلة المحبين، عندما تقوم أفراحهم فيه متوازية متباينة ومستقلة في صورة مسرات لا تعرف بعضها. أحوج كل ذلك المحبين على مدى الزمن إلى الاعتذار والتبرير بعشرات الطرائق والسبل. بداية من سلب العيد أسبابه وعوائده والتقليل من مظاهره وصوره كمن قال “أنشهد إن العيد بشوفك ولقياك ماهو بقول الناس عيدك مبارك” وقد يجعل لنفسه عيدًا يشترك مع الأعياد في الرؤية ويختلف في المرئي فيقول “العيد عيد الناس يبدأ بشوال والعيد عندي يبتدي يوم أشوفك” جاعلًا بذلك أعياد الناس مجازات وحاصرًا العيد على الحقيقة في محبوبه. وفي صورة اعتذار عن خطيئة الابتهاج بعيدًا عن المحبوب يقول أحدهم “العيد والله بشوفتك يا اكحل العين ماهو بشوفة ربعنا والجماعة” وهو يفتخر هنا بما لا يفخر به في غير هذا السياق، مستخدما مفردتي ربعنا والجماعة وما تحمله من دلالة الحمية والانتماء الرجولي الذي يتخلى عنه لصالح المحبوب ويعبر غيره في سياق استخفاف بكل أحد “وصافحت من لاقيت في العيد غيرها وكل الهوى مني لمن لا أصافح” وعندما لا يجدي كل ذلك حيلة يغبط المحب المكان والعيون وكل من يحيط بمحبوبه واعتبارهم هم من نال العيد حقًا بما لا يقوم مقامه أي عيد آخر فيقول “أهلٌ، تعيشينَ حتى الآن، بينهمُ طوبى لهم، لم يغبْ عن دارهم، عيدُ” ومع ذلك فقد ينجح المحب في اختراق ذلك والوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه، صديقي الذي خطب فتاة تعجبه أرسلت إليه موافقتها صباح العيد بعد طول ترقبه لرد منها: وختمت رسالتها بـ “أبعثها عمدا صباح العيد ليكون للناس عيدهم ولنا عيدنا” وقد استطاعت هذه البارعة أن تصنع لصديقي عيدًا لم ينساه. يفشل المتجردون من الحب والذكاء عن خوض هذا الصراع لذا يكتبون ببلادة في صباح العيد (من العايدين ورونا كشختكم).

حياةٌ منزوعة الملل

سكين الذبح مخدشة، أما سكين المائدة اللامعة فلا تصلح إلا لتقطيع الزبدة

– خالتي فاتن

بسبب موجة مطر خفيفة مساء البارحة تأخر وصول شحنة الكتب الثانية إلى مكة؛ فاخترت المبيت في أحد فنادق العزيزية الرخيصة حتى الصباح. وبمشقة حصلت على موقفٍ بطرف الشارع الرئيسي في صف فنادق مكتظة. ولاحظت أثناء التوقف سيارةً عائلية مرفوعٌ غطاء محركها وأبوابها مفتوحة ناحية الطريق ويتحرك حولها أطفال صغار، وأمام المركبة رجلٌ في أواخر الأربعين أو بداية الخمسين، وينظر بنظارة ذات عدسات غير مؤطرةإلى المحرك، بطريقة هادئة كمن يقرأ كتيب تعليمات، ذكرني موقفهم بكابريس والدي موديل 87 وتوقفاته بنا مرات ومرات في طرق سفرٍ بين المجمعة وشقرا وعفيف والدوادمي، وتذكرت النشامى ممن يقف لنا كل مرة ويسألون والدي “متعطلين؟” كراهية تلك الذكريات أعجزتني عن تجاهل الرجل وعائلته. فسلمت عليه وأنا ما زلت بسيارتي وقلت بصوت عالي ( متعطل؟ ) سألته، وفي عمق نفسي رجاء أن يجيب بالنفي لأدخل فندقي وأنام. لكنه شرع يشرح المشكلة من بعيد وصوته لا يصلني بسبب ضجيج الشارع؛ فسحبت مفتاح السيارة من مكانه ونزلت إليه.

من الموقف القصير شعرت أني أمام معلم اعتاد الاسهاب في الشرح، وحركة أولاده حول المركبة في منطقة سيارات مسرعة غير منتبهين لمخاطر المدن ومخاوفها، يشير إلى أولاد قرية صغيرة أو محافظة منعزلة يتحركون بشجاعة من لا يُقدِر الأمور. في هذا الموقف كنت أنا فأر المدينة ¹ وكان هو فأر البرية، وإن كانت مظاهرنا تدل على عكس ذلك. قلت له ادخل أولادك إلى السيارة واقفل الباب المفتوح ناحية الطريق، ثم نظرت في المحرك ورأيت أحد الأسلاك الموصلة بالبطارية قد ذاب ما يغطيه من مادة ورائحة بلاستيك محترق تصل إلى أنفي وحين عاد إلي سألته عن مكان سكنه فذكر فندقًا قريبًا. بعد مسائلة فهمت أن السيارة مازالت تشتغل، ولم يخرج منها دخان أو رائحة احتراق وقود أو ارتفاع حرارة. فقلت له: شف، أفضل خيار نوقف السيارة بمكان مناسب ونأخذ أولادك إلى الفندق؛ لن تجد كهربائي ينظر إلى المشكلة في هذا الوقت المتأخر.

طلبت منه إنزال عائلته بجانب السيارة ثم يقف بها مكان سيارتي بعد أن أخرجها من موقفها الرهيب. تركته ينفذ الخطوة الأولى وتحركت بسيارتي إلى جانب الطريق، وعدت لأجد أحد كبار السن توقف في الفراغ الذي تركته فلحقت به وطلبت منه المغادرة ثم عدت أنظر إلى محرك السيارة المتعطلة فإذ بصاحبها ينظر إلي بعيون قطة جائعة، ويشير إلى سيارة أخرى توقفت وكأنه يطلب مني النجدة، فذهبت وطلبت من الآخر المغادرة، لكنه طلب مهلة ليتحقق من وجود غرف بالفنادق المجاورة، فقلت له بتجهم ياخي اطلع معنا سيارة متعطلة نبي الموقف، طلب مني دقيقة فقط لكن أصررت على خروجه حالًا؛ فتحرك بسيارته وهو يحوقل ويتمتم، نظرت إلى صاحب المركبة وبطريقة متعالية ومتجاوزة فارق السن بيننا قلت بسرعة امش قبل أن يأتي شخص ثالث يأخذ الموقف علينا. أوقف سيارته بطريقة نظامية كمن يختبر للحصول على رخصة المرور. ثم ركب معي وأوصلته وعائلته إلى فندقهم، وقبل نزوله عرف بنفسه ومدينته وأخبرني أنه يبني عمارة في مكة لاستثمار جزء منها والسكن فيها بعد تقاعده…

بين الحياة الصغيرة المستقرة، و تجارب الترحال المضطربة، ثنائيات لا تجتمع، مكاسب وخسائر في كل إتجاه، غنى المال أم الروح، قلق التجارب أم براءة السكون، لا أفضلية مطلقة في الحالة الإنسانية وإن كنت أختار لنفسي رأي خالتي فاتن

_____

1- يقال في كتب الادب التقت فارة البرية النحيلة بفارة المنزل السمينة في السوق فسألتها من أين لها كل هذه العافية فقالت تعالي إلى البيت لأريك الخير ، ثم في البيت رأت الفخاخ والمصائد والمهالك التي لا تعرفها في الصحراء …. وبقية القصة معروفة

ما لا يُجاب

راجعني في العمل شخصٌ لإنهاء إجراءات تقنية، واستكمال قوائم مالية لمؤسسة شقيقه المتوفى. ولأن الاجراءات تتطلب ساعة عمل الاجراءات؛ فقد عرضت عليه أن أعد قهوة مقطرة وقطعة براونيز ، بدلًا عن خروجه في حر أغسطس؛ فقبل عرض الضيافة المغري وعلى طرائق العرب قمت أحضر القهوة وأنا أحادثه أحاديثٍ عامة وانتهى بنا الحديث المتهادي المترسل إلى وفاة شقيقه فوضع نظارته على الطاولة بجوار كوب قهوته وقال:
كنت في البيت عصرًا وقد استيقظت من قيلولتي وأتصفح هاتفي حين وصل خبر الحادث الذي تعرض له برفقة صديقه، ذهبت إلى الطوارئ سريعًا ووجدته أدخل غرفة العمليات فانتظرت إلى العاشرةً ليلًا، وصعدت مرافقًا له إلى التنويم، وقد استقرت حاله وسارت عمليته بشكل ممتاز، ثم بمنتصف الليل فتح عينيه وبدأ محاولة التحدث، لكني منعته لصعوبة الكلام عليه، قلت له ستتحسن غدا ونستطيع الحديث كرر المحاولة، ولكني تجاهلت إصراره، استخدمت نفوذ الأخ الكبير الذي يعرف الأصلح. سكت ونظر إلي لثوان ثم حول نظره إلى الهواء بعينين نصف مغمضة وبعد دقائق نام. لا أعرف متى غفوت وكم بقيت ولكني استيقظت على حركة الممرضة تحاول ايقاظه دون استجابة، نتيجة الغيبوبة نُقل إلى العناية المركزة ومات بعد 3 أيام.

سألته عن سبب الوفاة فأخبرني أن التقرير كُتب فيه “هبوط بالدورة الدموية” ترحمت على أخيه ودعوت له وسكتنا برهة وتظاهرت بترتيب أوراق والنظر في هاتفي، وشدني حين التفت إلي، وقد روى القصة كلها ووجهه إلى غير ناحيتي. لما التقت أعيننا سألني بوجه الباحث عن جواب عصي: تتوقع وش كان بيقول لي ذاك اليوم؟ في محاولة لطمأنته أخبرته أنه في الاغلب لم يكن بكامل وعيه ولم يرد قول شي محدد، وربما يتوجع فقط، فهز رأسه وسكت ولم نتبادل أي كلام حتى انتهيت من أوراقه وذهب بوجه من يشعر بالذنب، ملامح رجل قتل شقيقه بالخطأ.

على قناة التلقرام مجموعة من الشذرات اليومية والمشورات القصيرة في هذا الرابط  أو بالبحث عن blogswarraq
* هذه التدوينة منشورة بشكل آلي على تويتر من خلال منصة وورد بريس.

عطرٌ أقسمهُ في جسومٍ كثيرة*

أراد بعض الأشخاص أن يصبحوا أثرياء أو مشهورين لكني وأصدقائي أردنا أن نصبح حقيقيين. أردنا أن نغوص في الأعماق

آن لاموت

قبل أن يلتقوا لأجل الدراسة في الرياض جمعتهم رابطة خفيفة؛ محورها صداقات مشتركة برفاق مقربين، تلك العلاقة التي تقف في برزخ بين الصداقة العميقة والمعرفة العابرة من يلتقون كثيرًا في دائرة دون أن يربطهم لقاء منفرد. ثم جمعتهم الرياض على غير ميعاد. أكبرهم متقدَ العقل بقدرة حفظ مبهرة، ونفس طويل في متابعة الأشياء، وجلد غير مألوف للحصول على مايريد. انقطع عن الدراسة بعد المتوسطة ¹، وعمل في أشغال مهنية متعددة، كالعمل في كبائن الاتصال، وقيادة الشاحنات للتوصيل بين المدن … وحين سئم ذلك أكمل دراسة الثانوية، وتخرج منها يكبر زملاءه بسبع سنين، الثاني سبقهم بسنة دراسية إلى الرياض والتحق ببرنامج تعليم وتدريب مكثف ينتهي بعقد توظيف إلزامي في شركة أجنبية، اعتاد الخروج قبل الفجر والعودة إذا غابت الشمس أو كادت. ثالثهم فُتن بمكتبات الرياض، زارها كل ما سنحت له الفرصة يقلب الكتب متحسرًا ويعود بيدين فارغة لم يدم اجتماعهم أكثر من سنة لكنها كانت تجربة محضة من الألم والانزعاج والعيش الغرائبي والخلاف الدائم.

استخدم الأول تجربته الحياتية، وفارق العمر، سلاحًا يبرزه في وجوههم عند كل نقاش؛ ليحملهم بصلف على طباعة وآراءه المتصلبة، تفوق في دراسة الجامعة بتخزين كل ما يدرسه، مثل سنجاب شره، ثم بمنتصف الفصل الرابع ترك الجامعة، وانتقل إلى منطقة أخرى حصل فيها بوساطة خاله على وظيفة إدارية متدنية الأجر زوجه ابنته، وبعد خمس سنوات من اجتماعهم في الرياض، ضبطته إحدى جهات الأمن لأنه صرخ قبل صلاة العشاء في صحن المطاف في الحرم بأنه المهدي المنتظر، ثم أخلي سبيله بعد تعهد بمراجعة طبيب مختص.

ثانيهم تسبب في ارتباك المجموعة نتيجة امتعاضه الدائم من غياب ضوء النهار عن حياته، وزاد من ذلك تذمره من أفعالهم وأفكارهم وطباعهم الأكاديمية واهتماماتهم المعرفية، وكمن أصيب بقرحة معدة؛ كان دائم الضيق لسبب لا يفهمه. بعد عشر سنوات من عيشهم ذلك انتهت الفترة الإلزامية من عقده الوظيفي فتخلى عن عمله ذي الدخل العالي وهرب إلى قرية بعيدة جدًا، اتخذ له سكنا في بيت موروث لا مطامع لأحد فيه، استقر هناك يحمل في رأسه رغبة بالانطواء عن القرف الإنساني.

ثالثهم انسحب إلى نفسه بعد أسابيع قليلة لكثرة توبيخ رفاقه على إنفاق ماله القليل في الكتب بدلًا عن دفعه على غسيل ثيابه في مغسلة غير مغسلة الجامعة التي تغسل ألف قطعة من الثياب في غسلة واحدة منقعة في النيلة بسرف، أو دفعه لأجل طعام محترم غير الوجبات الرخيصة والمليئة بالدهون والأملاح والبهارات، التي يأكلها في مطعم الجامعة. كما لم يحتمل لومهم له على غيابه المتكرر عن الجامعة. في نهاية العام الدراسي انتقل إلى مدينة أخرى يكمل فيها الجامعة ويشرع بعدها في الارتحال إلى أماكن شتى. وبعد 15 سنة من اجتماعهم ذلك أنشئ حسابًا باسم وراق يكتب فيها أفكارًا لا تقل غرابة عن أفكار صاحبيه.


* العنوان مقتبس من قاسم حداد في مقدمة كتابه جوهرة المراصد
1- كانت شهادة المتوسطة تسمى الكفاءة وتتيح لصاحبها فرص توظيف أحيانًا

ثوبٌ أخلقه النوى*

“لم يكن وسيمًا بأي معنى متعارف عليه، ولم يكن منفرًا كذلك. فلم يبدُ أن تلك الكلمات تنطبق عليه لكن كان فيه شيء ما، شيء عتيق عركته السنوات، ليس في مظهره، إنما في عينيه
جسور مقاطعة ماديسون – 63 بتصرف

يمر بي عارض من عدم الاكتراث، يصيبني في كل عام مرة أو مرتين وأعرف ذلك حين تطول مقاطعتي للحلاقين يخرجني من ذلك الحال سفرُ عملٍ طارئ، أو مناسبة خاصة جدًا -وليس من هذه المناسبات بطبيعة الحال الأعياد واللقاءات العادية- تجعلني حالة اللاكتراث غير معني بالتجمل ولا أهتم بإعجاب أحد، ولولا عقوبات مخالفات الذوق العام لرأيت صورًا في وسائل التواصل لرجل يرتدي أردية عجيبة ويكون أنا ذلك الرجل، دخلت قبل شهرٍ إلى مقهى ضخم من تلك المقاهي الصاخبة التي يتمايل فيها الناس بمشية استعراضية تشبه مشية القطة¹، وطلبت قهوة بوصف معين بعد مناقشة متشعبة مع البائع عن مقدار حشوة الفستق في إحدى الحلويات، ثم اكتفيت بالقهوة حين رأيت حلواهم غير جديرة بالاهتمام، ورأيت في وجهه بعد انتهاء الطلب نظرة استهجان أعرف أن سببها شاربي الكث ولحيتي غير منتظمة الأبعاد وعقالي الذي انحدر بإتجاه اليمين خمس درجات وبإتجاه الخلف ثمان درجات، وشماغي الذي لا لا تعرف هل هو بمرازام رث أم سادة. ثم جلست على الطاولة وأخرجت كمبيوتري المحمول ووضعت سماعات ضخمة لتعزل الصوت، وكتاب ضخم على الطاولة، ورفعت راسي لأجد البائع لا يزال ينظر إليَّ متجاهلًا صف الناس الذين يقفون بانتظار طلباتهم فذكرتني نظراته أن أكمل مهمتي بنزع شماغي ووضعه بالعرض على الطاولة وتشمير أكمامي للعمل.
لست شجاعًا للاحتفاظ بهذا المزاج طويًلا، وجسارة اللاكتراث مرهونة بشعور التعب، والهلع، والخوف من انفلات الأمور، ووقوعي تحت الضغط. وحين تبدأ الخيوط تتجمع في يدي؛ تدب إليَّ غواية التجمل والمداراة مجددًا.
ذهبت إلى حلاقي البارحة بعد انقطاع خمسة أشهر، وسألني كالمعتاد عن آخر منطقة كنت فيها، وأين سأسافر هذه المرة، ثم أخبرني عن صيدلي تعرض لإطلاق نار في إحدى المناطق، وأغراني بالسفر إلى القاهرة وهو يكرر هذا الإغراء كل مرة؛ ليشبع رغبة التحليق إلى مصر ولو بإغراء إنسان آخر بذلك.
عند المغادرة رأيت وجهي في المرآة بشعور من ينظر في هاتف جديد بعد سنتين من إستخدام هاتف بشاشة مكسورة.


1- مشية القطة هي مشية العارضات على مسارح الازياء وسميت بهذا لأنها تشبه مشية القطط حين ينظر اليها من الامام
* – عنوان التدوينة مقتبس من شطر بيت أيوب الجهني “ولكن ثوب الصبر أخلقه النوى ولم يبق منه اليوم للشق راقع”

الصدى وجع رقيق

في وليمة عائلية تحدثوا عن ذئب يحوم في مراعي أغنام الأقارب، يصف والدي أثره على الارض واتساع مدى خطواته بخطى الخيل، وقال أحد عمومتي “هو ذئب سهول لم تحطم الجبال مخالبه رأيت أثر يده قبل أشهر، غائرٌ في التراب جدًا” أحصى أحدهم آثار خمسةكلاب ركضت خلفه مرة لتمنعه من افتراس الأغنام ثم عقب في ما يشبه المديح: “الشهادة لله إنها ركضت وراه ركضة الخايف ولا كانت بتقدر عليه لكنها تشغله عن الغنم” كل من فقدوا أغنامًا ووجدوا أثره في حظائرهم لم يجدوا دمًا أو جثثًا، يذكرون مرة وحيدة سحب شاة سمينة حتى استسلمت وتركته ينفرد بأثر خطوه على الأرض. بخلاف غيره من الذئاب يهجم مرة في كل بقعة ثم يختفي برأسٍ واحد من الغنم. بعد ليلتين من مروره بديارنا، ذُكر وصف ليد ذئب مثل يده، في سهل يبعد عنا سبعين كيلوًا نحو الجنوب الغربي، يجتاز سهولًا منبسطة ولا يعرف أحدٌ كيف يعبر بضخامته دون أن يُرى.

أشياء مكثت في عيني

“مهما تضخم الفراغ الذي بداخلك؛ لا تملأه بالناس”
-khol0d – في تويتر بتصرف.

حين افتتحت التدوينة انتبهت أني أريد الكتابة عن عام انصرم بعد انقضاء ربع السنة الجديدة تقريبًا، يبني الناس تواريخهم بالسنوات وأبني تأريخ أيامي بالأماكن والمدن والمنازل.
يحرضني على هذه التدوينة هدوء ليلتي الأولى في منزل واسع الأرجاء خال من كل شيء عدا مرتبة سرير جديدة وفلتر هواء أصحبه أينما ذهبت أكافح به الروائح والغبار، ورجع الصدى في المكان. أنزل الليلة هنا تاركًا ورائي أياما وأحداُثا تشبه العام المنصرم.
في تنقلاتي الأخيرة كنت أسكن وحدات معدة ومفروشة مسبقًا، وأبني فيها أياما ممتزجة بأرواح من نزلوا المكان قبلي وأترك هالة مضطربة من المشاعر لمن سيحل بعدي، لكن هذه المرة أنزل بيتًا تعمدت غسله جيدًا قبل إدخال أغراضي وكأني أغسله من كل ذكرى حلت فيه قبلي.
يلح علي عدد من أصدقائي أن أكتب عن حائل بعدما قضيت عامًا كاملًا فيها، وكلما هممت بالكتابة أصابتني حبسة هائلة تشبه العي، أحاول القبض على ما بنفسي فلا أجد إلا ضبابًا، لا يقبض بالكف، لكنك تجد برودته في صدرك، جئت حائل أحمل جمرة هم تشتعل بداخلي، أتحرك مثقًلا إليها، ونفسي كحجارة مرصوفة بلا ملاط، كلما خطوت خطوة اهتزت مقعقة ومائلة، أخشى أن ينفلت منها حجرٌ ثم تتبعه بقية نفسي إلى القاع.
ذهبت مجموعة من الهزائم في كل صوب وأول هزائمي فقدان ذاتي، كنت أتساءل من أنا؟ وإن لم يظهر هذا السؤال بهذه الفجاجة لكن أدرك أصدقائي المقربون أن بوصلتي تدور إلى غير وجهة وأن المسالك تعددت فلا أعلم إلى أي طريق أسلك والدروب التي أريد شقها تحمل معها الخسائر. أدركوا أني أسأل سؤال الحائر وأقلقهم ذلك لأنه يصدر ممن اعتاد تقديم الإجابات لا الأسئلة. كنت جسورًا جسارة من يستعجل المصائب، يحيط بي القلق، وأتشبث برباطة جأش تقف في وجه الهلع ولأعزز ذلك كتبت منشورًا تبشيريًا أطمئن فيه الناس وما أردت غير طمأنة نفسي لأقيم الحجة عليها فلا أملك إلا التماسك حفظًا لماء الوجه، ثم كان ما كان ووقع ما وقع. وفتح لي درب حياة جديد لم أحسب أني ما زلت أستطيعه، وكانت لي في حائل أيام جمال وسرور افتتحتها ببرد يناير وغادرتها في موسم الشتاء بدفء محبة الكرام.

لم أستطع الكتابة منذ ذلك الوقت عن حائل وأنا الذي احتفظ في مذكراتي بالكثير الطويل عن المدن وحين أتأمل في ذلك أجد أني في كل بلد نزلته، أجعل لنفسي ذكريات أحملها معي أما في حائل فقد كسبت أهلا وإخوانا تركتهم ورائي، جئت حجارة مائلة تتقعقع وعدت بنفس ثابتة وخطوة مستقيمة وعقال مائل.