أراد بعض الأشخاص أن يصبحوا أثرياء أو مشهورين لكني وأصدقائي أردنا أن نصبح حقيقيين. أردنا أن نغوص في الأعماق
آن لاموت
قبل أن يلتقوا لأجل الدراسة في الرياض جمعتهم رابطة خفيفة؛ محورها صداقات مشتركة برفاق مقربين، تلك العلاقة التي تقف في برزخ بين الصداقة العميقة والمعرفة العابرة من يلتقون كثيرًا في دائرة دون أن يربطهم لقاء منفرد. ثم جمعتهم الرياض على غير ميعاد. أكبرهم متقدَ العقل بقدرة حفظ مبهرة، ونفس طويل في متابعة الأشياء، وجلد غير مألوف للحصول على مايريد. انقطع عن الدراسة بعد المتوسطة ¹، وعمل في أشغال مهنية متعددة، كالعمل في كبائن الاتصال، وقيادة الشاحنات للتوصيل بين المدن … وحين سئم ذلك أكمل دراسة الثانوية، وتخرج منها يكبر زملاءه بسبع سنين، الثاني سبقهم بسنة دراسية إلى الرياض والتحق ببرنامج تعليم وتدريب مكثف ينتهي بعقد توظيف إلزامي في شركة أجنبية، اعتاد الخروج قبل الفجر والعودة إذا غابت الشمس أو كادت. ثالثهم فُتن بمكتبات الرياض، زارها كل ما سنحت له الفرصة يقلب الكتب متحسرًا ويعود بيدين فارغة لم يدم اجتماعهم أكثر من سنة لكنها كانت تجربة محضة من الألم والانزعاج والعيش الغرائبي والخلاف الدائم.
استخدم الأول تجربته الحياتية، وفارق العمر، سلاحًا يبرزه في وجوههم عند كل نقاش؛ ليحملهم بصلف على طباعة وآراءه المتصلبة، تفوق في دراسة الجامعة بتخزين كل ما يدرسه، مثل سنجاب شره، ثم بمنتصف الفصل الرابع ترك الجامعة، وانتقل إلى منطقة أخرى حصل فيها بوساطة خاله على وظيفة إدارية متدنية الأجر زوجه ابنته، وبعد خمس سنوات من اجتماعهم في الرياض، ضبطته إحدى جهات الأمن لأنه صرخ قبل صلاة العشاء في صحن المطاف في الحرم بأنه المهدي المنتظر، ثم أخلي سبيله بعد تعهد بمراجعة طبيب مختص.
ثانيهم تسبب في ارتباك المجموعة نتيجة امتعاضه الدائم من غياب ضوء النهار عن حياته، وزاد من ذلك تذمره من أفعالهم وأفكارهم وطباعهم الأكاديمية واهتماماتهم المعرفية، وكمن أصيب بقرحة معدة؛ كان دائم الضيق لسبب لا يفهمه. بعد عشر سنوات من عيشهم ذلك انتهت الفترة الإلزامية من عقده الوظيفي فتخلى عن عمله ذي الدخل العالي وهرب إلى قرية بعيدة جدًا، اتخذ له سكنا في بيت موروث لا مطامع لأحد فيه، استقر هناك يحمل في رأسه رغبة بالانطواء عن القرف الإنساني.
ثالثهم انسحب إلى نفسه بعد أسابيع قليلة لكثرة توبيخ رفاقه على إنفاق ماله القليل في الكتب بدلًا عن دفعه على غسيل ثيابه في مغسلة غير مغسلة الجامعة التي تغسل ألف قطعة من الثياب في غسلة واحدة منقعة في النيلة بسرف، أو دفعه لأجل طعام محترم غير الوجبات الرخيصة والمليئة بالدهون والأملاح والبهارات، التي يأكلها في مطعم الجامعة. كما لم يحتمل لومهم له على غيابه المتكرر عن الجامعة. في نهاية العام الدراسي انتقل إلى مدينة أخرى يكمل فيها الجامعة ويشرع بعدها في الارتحال إلى أماكن شتى. وبعد 15 سنة من اجتماعهم ذلك أنشئ حسابًا باسم وراق يكتب فيها أفكارًا لا تقل غرابة عن أفكار صاحبيه.
* العنوان مقتبس من قاسم حداد في مقدمة كتابه جوهرة المراصد
1- كانت شهادة المتوسطة تسمى الكفاءة وتتيح لصاحبها فرص توظيف أحيانًا