حنينٌ إلى نغمٍ ريفي.

كل محرضات الشعر أمامي ومن حولي .. ولكن لا شيء يحرضني على الكتابة إلا الصغائر والترهات العابرة والمفاجآت المنزلية المباغتة .. كأن تندلق القهوة على ثيابي، أو أفاجأ بخطأ في فاتورة البقال أو الهاتف؛ لأنني أسجل ديوني وأقرأ فواتيري كما أقرأ الشعر.  (الماغوط)

عشت سنوات طفولتي الأولى في إسكان كبير جدًا قُسم إلى مربعات سكنية بحسب الرتب العسكرية لأصحاب البيوت، وتمتد المربعات مسافة بعيدة عن بعضها بالسيارة لكنها تتناقص إلى بضعة كيلوات إذا سلك الشخص على قدميه طرقًا مختصرة بين المجمعات.
في أحد المساءات قبل أن أبلغ السادسة، عزمت أثناء وجود والدتي بالمدرسة المسائية على زيارة قريب لي يسكن مجمعًا بعيدًا عنا. واستقر رأيي على سلوك طريق السيارات الطويل؛ لأنه الطريق الوحيد الذي تعرفه ذاكرتي الصغيرة، احتاجت خطتي إلى شريك فأغريت شقيقتي بالمغامرة متبجحًا بمعرفة الطريق، ولأن أصدقاء السوء يقدمون عروضًا لا يمكن رفضها؛ وافقت على مرافقتي. وسرنا كما تسير المركبات، من الحي إلى المواقف، ومنها إلى الشارع الفرعي، وصولًا إلى الطريق السريع، ثم مشيا على رصيف حذاء درب السيارات الدائر على المجمعات.

بطريقنا صادفت نخلة صغيرة تدلت منها عناقيد (بسر) خضراء اللون، فوقفت أشرح لمرافقتي أنه نوع من التمر وأن هذه نخلة فبالتالي هذا (بلح) وأننا لو أخذناه وتركناه في المنزل سيصبح أصفرًا فيما بعد، قطفت واحدة وناولتها لها وتناولت أخرى، وبعد قضمة صغيرة بصقت ما قضمته وألقيته على الأرض ثم نظرت إلى شقيقتي التي سبقتني إلى نفس الفعل، قدرت بسذاجة طفولية أن عدم استساغتي له لا يعتبر عيبًا وأن والدتي التي تحب البلح ستسر بها فالكبار دائمًا ما تطرب أمزجتهم الأشياء المريرة، اكتنزت أربع حبات منها في جيبي وأغلقت عليها جيدًا ثم أكملت الطريق. وقد لحظت أن المركبات تخف سرعتها عند محاذاتنا ويرن أصحابها بأبواق التنبيه وكنت أكتفي بالتلويح لهم مطمئنًا، أني بعيد عن الطريق.

بعد مدة انتهى سيرنا إلى النزول بوادٍ ذي صخور ونباتاتٍ وأشواك برية مستديرة تلصق بباطن القدم وقد كنا نمشي حفاة، غربت الشمس ونحن لم ننتصف الطريق وتنبهت حينها أن المسافات التي نقطعها مع أبي في دقائق قليلة أخذت منا قرابة ساعتين حتى الآن وفهمت لأول مرة أن المسافات تمتد حين نقطعها دون أهلنا، أردت أن أصل إلى بيت قريبي سالمًا وأكون بطلًآ يغض الطرف عن ذهابه دون استئذان. ولكني اضطررت للعودة مستسلمًا في منتصف الطريق نتيجة التعب والخوف وبكاء شقيقتي ونزول الظلام وتجرح أقدامنا من الصخور والأشواك.

وفي عودتنا توقف بجوارنا رجل اكتست لحيته بالبياض كان أحد أولئك الذين ضربوا لي أبواق التنبيه بل كان أكثرهم إصرارًا، وعند مشاهدته لنا بطريق عودته قرر التوقف مدفوعًا بالفضول وفائض أبوة ناجم عن غرابة وجودنا في هذا المكان، سألنا إلى أين نتجه فأخبرته بوجهتنا ورقم منزلنا واسم شارعنا ومكان حينا بشكل دقيق، ولكنه لم يأخذ كلامي على محمل الجد.

ذهب بنا إلى بيته ثم أجلسنا في المجلس محاطين ببناته الشابات ومد لنا حليب بارد وعصير برتقال وبقي يتناقش مع زوجته وبناته عما يفعل بنا، في النهاية أشارت زوجته بأن يذهب حيث أرشدته ثم يرى ويقرر بعد ذلك أن يذهب لمركز الشرطة أم لا، كنت كمن يشاهد فيلمًا سينمائيًا ويصرخ من خلف الشاشة على البطل ليخبره بما غاب عنه دون أدنى إستجابة، بقيت أجيب على أسئلة العائلة المدهوشة وأخبرت الأب أني شاهدته في عزيمة عشاء بمنزل جارنا أبو فلان ولكن الرجل لم يصدقني وأخذني كالمتشكك إلى حيث أُرشده وأخبرته عند وصولنا إلى المواقف البعيدة أنه يكفي عليه التعب حتى هنا وسأكمل بنفسي الطريق إلى المنزل لكنه رفض ونزل بنا ممسكًا في كل يد بأحدنا، وكنت أردد له “أعرف الطريق” ولكنه تجاهل كلامي مكتفيًا بالتحقق مني بعد كل مرحلة إن كان منزلنا في هذا الإتجاه.

دخلنا إلى حينا الأصغر وقد بدا ضاجًا على غير العادة في وقت صلاة العشاء كان الشارع مليء بالرجال والنساء، وأضيئت أنوار البيوت أكثر من المعتاد، وعند دخولنا رفق الرجل الغريب بدأ الجميع ينادي ويشير إلينا، فجاءت أمي فزعة وقد ارتدت عباءتها بطريقة فوضوية لم اعتدها وتسير نحوي بقدم حافية، لم أفهم لماذا بدت رثة هكذا ولم الحي صاخب، اقتربت مني ثم بادرتني بلطمة قائلة “وين رحت يا كلب” وسحبتني بأذني وأنا أصرخ “ما ضعت يا أمي ما ضعت كنت بروح ألعب عند محمد” أدخلتني إلى إحدى الغرف وضربتني ضربًا ممزوجًا بالخوف والقهر وهي تردد “ليش تروح وأنا ما أدري، ليش ليش” وبعد أن أخذتُ حصتي من النشيج والبكاء تذكرت أمرًا فأدخلت يدي إلى جيبي ومددتها لأمي وقلت “جبت لك شي تحبينه” فأخذتني في حضنها وبقيتْ تبكي مفرغة قلقها وهلعها على كتفي.

ومنذ ذلك الوقت وأنا أردد للناس “لست ضائعا أنا أعرف الطريق جيدًا” ولا أحد يصدقني.

9 رأي حول “حنينٌ إلى نغمٍ ريفي.

  1. مقال لطيف و عميق رغم بساطته .. قؤأته قبل النوم و كأنه كُتب لتأملات الماضي و المستقبل و ما بينهما التي لا تأتي إلا وقت النوم

    إعجاب

أضف تعليق