حياةٌ منزوعة الملل

سكين الذبح مخدشة، أما سكين المائدة اللامعة فلا تصلح إلا لتقطيع الزبدة

– خالتي فاتن

بسبب موجة مطر خفيفة مساء البارحة تأخر وصول شحنة الكتب الثانية إلى مكة؛ فاخترت المبيت في أحد فنادق العزيزية الرخيصة حتى الصباح. وبمشقة حصلت على موقفٍ بطرف الشارع الرئيسي في صف فنادق مكتظة. ولاحظت أثناء التوقف سيارةً عائلية مرفوعٌ غطاء محركها وأبوابها مفتوحة ناحية الطريق ويتحرك حولها أطفال صغار، وأمام المركبة رجلٌ في أواخر الأربعين أو بداية الخمسين، وينظر بنظارة ذات عدسات غير مؤطرةإلى المحرك، بطريقة هادئة كمن يقرأ كتيب تعليمات، ذكرني موقفهم بكابريس والدي موديل 87 وتوقفاته بنا مرات ومرات في طرق سفرٍ بين المجمعة وشقرا وعفيف والدوادمي، وتذكرت النشامى ممن يقف لنا كل مرة ويسألون والدي “متعطلين؟” كراهية تلك الذكريات أعجزتني عن تجاهل الرجل وعائلته. فسلمت عليه وأنا ما زلت بسيارتي وقلت بصوت عالي ( متعطل؟ ) سألته، وفي عمق نفسي رجاء أن يجيب بالنفي لأدخل فندقي وأنام. لكنه شرع يشرح المشكلة من بعيد وصوته لا يصلني بسبب ضجيج الشارع؛ فسحبت مفتاح السيارة من مكانه ونزلت إليه.

من الموقف القصير شعرت أني أمام معلم اعتاد الاسهاب في الشرح، وحركة أولاده حول المركبة في منطقة سيارات مسرعة غير منتبهين لمخاطر المدن ومخاوفها، يشير إلى أولاد قرية صغيرة أو محافظة منعزلة يتحركون بشجاعة من لا يُقدِر الأمور. في هذا الموقف كنت أنا فأر المدينة ¹ وكان هو فأر البرية، وإن كانت مظاهرنا تدل على عكس ذلك. قلت له ادخل أولادك إلى السيارة واقفل الباب المفتوح ناحية الطريق، ثم نظرت في المحرك ورأيت أحد الأسلاك الموصلة بالبطارية قد ذاب ما يغطيه من مادة ورائحة بلاستيك محترق تصل إلى أنفي وحين عاد إلي سألته عن مكان سكنه فذكر فندقًا قريبًا. بعد مسائلة فهمت أن السيارة مازالت تشتغل، ولم يخرج منها دخان أو رائحة احتراق وقود أو ارتفاع حرارة. فقلت له: شف، أفضل خيار نوقف السيارة بمكان مناسب ونأخذ أولادك إلى الفندق؛ لن تجد كهربائي ينظر إلى المشكلة في هذا الوقت المتأخر.

طلبت منه إنزال عائلته بجانب السيارة ثم يقف بها مكان سيارتي بعد أن أخرجها من موقفها الرهيب. تركته ينفذ الخطوة الأولى وتحركت بسيارتي إلى جانب الطريق، وعدت لأجد أحد كبار السن توقف في الفراغ الذي تركته فلحقت به وطلبت منه المغادرة ثم عدت أنظر إلى محرك السيارة المتعطلة فإذ بصاحبها ينظر إلي بعيون قطة جائعة، ويشير إلى سيارة أخرى توقفت وكأنه يطلب مني النجدة، فذهبت وطلبت من الآخر المغادرة، لكنه طلب مهلة ليتحقق من وجود غرف بالفنادق المجاورة، فقلت له بتجهم ياخي اطلع معنا سيارة متعطلة نبي الموقف، طلب مني دقيقة فقط لكن أصررت على خروجه حالًا؛ فتحرك بسيارته وهو يحوقل ويتمتم، نظرت إلى صاحب المركبة وبطريقة متعالية ومتجاوزة فارق السن بيننا قلت بسرعة امش قبل أن يأتي شخص ثالث يأخذ الموقف علينا. أوقف سيارته بطريقة نظامية كمن يختبر للحصول على رخصة المرور. ثم ركب معي وأوصلته وعائلته إلى فندقهم، وقبل نزوله عرف بنفسه ومدينته وأخبرني أنه يبني عمارة في مكة لاستثمار جزء منها والسكن فيها بعد تقاعده…

بين الحياة الصغيرة المستقرة، و تجارب الترحال المضطربة، ثنائيات لا تجتمع، مكاسب وخسائر في كل إتجاه، غنى المال أم الروح، قلق التجارب أم براءة السكون، لا أفضلية مطلقة في الحالة الإنسانية وإن كنت أختار لنفسي رأي خالتي فاتن

_____

1- يقال في كتب الادب التقت فارة البرية النحيلة بفارة المنزل السمينة في السوق فسألتها من أين لها كل هذه العافية فقالت تعالي إلى البيت لأريك الخير ، ثم في البيت رأت الفخاخ والمصائد والمهالك التي لا تعرفها في الصحراء …. وبقية القصة معروفة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s