الكتابة .. جمعُ ما انفلت.

ربما كانت الكتابة لعبة في عصور أخرى .. لكنها اليوم مهمة جسيمة الغرض منها تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده؛ لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه.
- كازانتزاكيس

تفاوتت ردود الذين يقرأون المدونة بعد تتابع تدويناتي لكن النصيب الأكبر كان للاستفسارت عن الكتابة، وكيفيتها، وما الفارق بين الواقعي وغيره، وما هي مساحات الصراحة التي يفترض بالكاتب السير فيها، وكيف يحافظ الكاتب على لياقة قلمه، ومتى ينشر ومتى لا. استطعت مقاومة الفخ ولم أجب عن كل هذا. إحدى السلوكيات الخادعة التي يقع فيها كثير من المبتدئين خلطهم بين امتلاك تجربة صغيرة، وتنصيب نفسه مدربا ومعلما؛ فتسمعه بعد عدد من المحاولات المتواضعة يلقي الى الجمهور نصائحا مثل “اجتهد واشتغل على نفسك …” ويردد قواعد عامة ومبتذلة.
أكثر ردود الأفعال طرافة تلك التي صنفت ما أكتبه ضمن (الدورات الإرشادية) أو (الطرق العملية للحياة)، وجاءت معظمها على إثر تدوينة الانقطاع عن وسائل التواصل. إحدى القارئات تعودت التقييم اليومي للمقالات، على طريقة الذي كان يقيم الطعام بأسلوب (الخبزة اعطيها ستة من عشرة) وضعت سطرا من التدوينة وكتبت “غيرالعنوان وهذا السطر لم أجد شيئا مثيرا للاهتمام ولا تجربة كاملة واضحة لكنها تدوينة جيدة وأسلوب كتابتها سلس” بنفس طريقة تقييمها وصلتني عشرات الرسائل من متعطشين لإطلاعهم على السر الأكبر والكشف الغامض الذي توصلت إليه؛ وأخرى من راغبين في الانقطاع عن وسائل التواصل ويطلبون الدواء والإرشاد، وقد أرعبني ذلك.
ردود الفعل هذه دفعتني للكتابة عن طريقتي في التدوين وإن كنت أخجل حتى من التفكير في ذلك، من أنا حتى أتبجح بطريقتي؟ لكن عزائي أن هذه ليست مدونتي الأولى وأني كتبت في مدونات اندثرت ما يجعلها (شبه تجربة)، بالإضافة إلى المنشورات الطوال المكتوبة في حسابي القديم على السناب شات.
مازلت أكرر أن التدوين هو الشكل الأثبت والأصلب والأجدر في كل الأشكال الكتابية عبر شبكة الإنترنت لأن الوسائط الحاملة للمحتوى الأدبي والمعرفي تلقي بتأثيرها عليه ولو لم يشعر الكاتب والمتلقي.
بعد كل هذا: ما أكتبه هنا سردٌ تشكل اليوميات مادته الأساسية متداخلة مع الكتب ومراجعاتها وحكايا من الماضي والحاضر في شكل سرد ذات مع جزء كبير من المتخيل. بمعنى آخر: هي خيالات، مع أحداث من واقعي وواقع غيري، أنطلق منها لأكتب في أشكال مختلفة، لا اتخذ طريقة واحدة وأعامل ما أكتبه معاملة النص الواحد الممتد، أمزج فيه جدًا بهزل، وتأملًا بتجربة، ملتزما في كل هذا إيراده بصدق تام؛ متوقفًا عن مراقبة القارئ ومحترمًا له على حد السواء – لأن تجربة القراءة علمتني أن أوفر الكتاب حظا برضى القارئ؛ أقلهم اهتماما بمجاملته والكتابة على هواه وهذه مفارقة – أحاول أن يكون كل ما سبق مكتوبا بخفة تشبه المشافهة لأن أرق الأدب ما مس قلب قارئه وكأنه مخصوص به وملقي إليه دونا عن غيره.
يجد كثير من الناس دافعه الإبداعي في أزمات الحياة؛ وتصبح الكتابة عنده استشفاء يَعبرُ به المناطق الداكنة. بالنسبة لي الكتابة وعامة الأفعال الأدبية تنضوي تحت قائمة المباهج؛ ولا تنفسح نفسي للقول ولا للنظر المعرفي كانفساحها في اللحظات الهادئة الهانئة. في الأوقات الصعبة أتوقف عن التدوين ليس عجزا، لكن تزعجني كتابة الذات الكاشفة عن خبايا أود سترها؛ والنفس ليست مقدسة عن الأوصاف البشرية لكن هذا الانكشاف الشافّ عن الخلال الرديئة هدر في عمر القائل والقارئ.
على أن الإنسان مولع بالاطلاع على قصص الآخرين مدفوعا بالفضول، والرغبة بقراءة ما يشبهه في حياة الناس. وحين يقع على ذلك يحار في التعبير عنه إلا بالمقولة المبتذلة “هذه الرواية تغوص في النفس البشرية” وعلى كثرة تردادها إلا أنه لا شيء يقوم مقامها لوصف فضول الإنسان تجاه الإنسان وإن كان لي حق تغيير زاوية الرؤية فإن الغوص في النفس البشرية ليست وظيفة الكاتب بل رغبة وشغف القارئ بالاطلاع عميقا في نفوس بني جلدته.
(خشية القولبة ) هي ما يجعلني أفر عن الكتابة في غير وقت البهجة؛ إذ إن الكتابة السوداوية بقدر ما تجذب من يحب هذا اللون الكتابي بقدر ما تنسحب على قلم الشخص حتى يستأسر لها، ولا أحب ذلك لنفسي؛ هروبًا من الاستكانة لصورة واحدة يعيش المرء في ظلالها ولا يغادرها. كما أن الكتابة تحت ظروف إنفعالية تُخرج آراء حادة من الإنسان قد لا يعنيها تماما بالضرورة.
في معرض الكتاب الماضي كانت تعليقات الأصدقاء الذين التقيتهم عن ما أدونه بشكل غير متوقع بالنسبة لي وهو ما أصابني بالرهبة والتوقف عن التدوين لكني دفعتها بتذكير نفسي بما التزمته من ترك مراقبة القارئ.
ردود الفعل غير المتوقعة أكدت ما قاله أحد الأصدقاء حين قررت التدوين المُستمر وكان الهاجس: لمن أدون وأنا لا أملك أي نشاط تفاعلي في وسائل التواصل فقال لي “أكتب وسيجد المنشور الجيد طريقه إلى الآخرين”
أخيرًا: لست في هذه التدوينات في مقام أستاذية ولا أعطي توصيات جاهزة على شاكلة “كيف تحصلين على بشرة نقية في أسبوعين” أو” تعلم أصول الاستثمار في ربع ساعة” وكل ما أدونه هنا هو تجربة بشرية يتلصص عليها القارئ مدفوعا بالفضول والضحك أكتبها مشروطة بظرفها الإنساني الذي يجعلها قاصرة جدا على صاحبها ولا تحتمل التمدد لأشخاص آخرين إلا بما يختارونه لأنفسهم. إن رأيت في التدوينات ما يستحق سلوك الطريق إلى الآخرين فشاركها إلى دروبهم.


على الهامش:

  • استخدم التلقرام لنشر روابط التدوينات وأكتب (أحيانا) منشوراتٍ قصيرة وأقتبس وأعلق تعليقات لا تحتمل الإفراد بالنشر في المدونة. وإن أحببت متابعة القناة فهذا رابطها : https://t.me/blogswarraq
  • عادتي أن أنشر الفكرة كاملة حالما ترد في بالي ثم أعود لتحرير النص وتدقيقه وتعديل أسلوبه وصياغته لأني كسول لو تركت النص حتى أدققه فقد لا أنشره إطلاقا.
  • المدونة مرتبطة بحسابي في تويتر لكن لا أستخدم التطبيق قد يفوتني التفاعل مع بعض التعليقات في تويتر بلا تقصد.

رأيان حول “الكتابة .. جمعُ ما انفلت.

  1. “أكتب وسيجد المنشور الجيد طريقه إلى الآخرين”
    هذا ما اؤمن به: الكتابة الجيدة مصممة على العيش ككائن مقاوم لمعارك الحياة. مع أني لا أميل للجماهير ولا أثق بالرأي الجمعي، وحدّي الأعلى للقاءات النادرة طاولة وكرسيان كثيرا من الأحيان يكون أحدهما شاغرا، وأرتعب من أي نوع للتعداد البشري. لايبدو هذا حسن للكثيرين ربما لكني راضية بذلك وأدرك حجم الهناء الممدد بمساحات محمودة. مرت في حياتي فترة كنت أخالط فيها الدنيا والناس، أما الآن أشعر أني كائن ملولب في صدفة سلحفاة معمرة. ورغم أن جمهوري العزيز عشرة قراء لكل شهر فأنا سعيدة بالكتابة لأنها المصدر الحيوي الرائع لأن أعرف شكل صوتي الخامل؛ ولأني لا أعرف وسيلة آمنة للتواصل مع العالم بشكل جيد سواها، قد تبدو رديئة وقد تبدو مثالية، لا حكم لي عليها، أتركها تمضي تختار وجهتها نحو الفضاء: طائرة ورقية، أو مروحية وأحيانا ما تبدأ بالزحف كدودة قز لاتعرف حلم الفراشات الملونة.

    إعجاب

أضف تعليق