وجهٌ يكافح كي يضيء

كلما كان الإنسان أطول قامة؛ تحتم عليه أن يحرم نفسه من أشياء كثيرة. في القمة لا مكان للإنسان إلا وحيدًا

فرناندو بيسوا

وجهٌ بريءْ..
وجهٌ بكل الليل في الدنيا..
يكافح كي يضيءْ..

أمل السهلاوي

قلما أعجب بإنسان؛ خوفًا من تحول ذلك إلى خيبة – وأظنك تعرف هذا الشعور كما أعرفه أنا – وأندر من إعجابي أن أكتب عن شخص ما.

بانتقالي قبل أشهر إلى مقر عمل بعيد عن كل ارتباطاتي في الحياة، كان سلواني أنها فرصة لمعرفة الناس؛ إذا تفاخر الآخرون بعد سنوات بأرصدتهم المالية وعقاراتهم، أعتقد أني سأفتخر برصيدي من الأشخاص الكرام.
رأيته في الإدارة أول مرة يضع الشماغ دون تأنق ويلتف جانب شماغه الأيسر من خلف رقبته وبالكاد يصل إلى كتفه الأيمن. ويتراجع عقاله إلى الخلف فوق المعتاد، يبدو وكأن ما على رأسه سيقع في أي لحظة، ومع ذلك لا يقع. وكان هذا سببا كافيا للإنطباع الجيد عنه. أحب هذا النمط من العيش، اللامبالاة مع الأناقة الكافية، ترك النفس تأخذ نصيبها من الفوضى كنصيبها من التجمل، والإبقاء على مسافة بين كل شيء، بين الحزم والحلم، والغفلة والدهاء، والمجون والجد. كان قادرًا على أن يبدو عاديًا وغير عادي في وقت واحد. مختلفًا عن الآخرين بلا إدلال بأفضليته ودون إشعار بدونيتهم عنه، اتسعت نفسه للناس حد الجمع بين المتناقضين، عنده من الأصدقاء المقربين إليه ما لو جمعهم مجلس لقامت بينهم معركة مشهودة. حين سألته شلون تماشي هالناس كلها وما تتصادم معهم قال “بسيطة توقف عن محاولة تغيير الناس واترك اللي يبي يغيرك”.
يستثمر بضع آلاف في شركة كورية لصناعة معجون خاص لألعاب الأطفال، ولديه خمس من الأبل يقضي المساء عندها، ويشترك في قناة ألماني على اليوتيوب يطرح الجديد عن نظريات الفيزياء، ويشتري أدوات نجارة من موقع صيني يقضي عليها وقت فراغه، يقرأ في سير الأمم ويحفظ قصص العرب وحين يشتم مديرنا يستشهد بأحد أراذل التاريخ ثم يتبع قصته ببيتي هجاء؛ يستحضر الشعر بشكل يدعو للغيرة.
لو تقدم به الزمان قليلا لكان رائدا من رواد الفلسفة الكلبية، حين قلت له ذلك ضحك وفتح الجوال وراح يبحث عن الفلسفة الكلبية.
يضرب به المثل في جودة العمل وسمعت أول قدومي، همسا عن تعرضه لسوء معاملة وظيفية بلا سبب، وبعد توثق معرفتنا فهمت أن إنسانا شجاعًا مثله لا يمكن أن يحبه الكثير من البشر؛ يتأذى السفلة من رؤية النبيل الشجاع لأنه يكشف لهم أي أخلاق دنسة تنطوي عليها نفوسهم، والضوء الساطع يؤذي الأعين المريضة، ومع ذلك لم أسمعه يشتكي مما يتعرض له، لو كنت مكانه لملأت الدنيا نحيبًا
بعد معرفتي الوثيقة به علمت أن حياته كلها تبدو مثل شماغه؛ تشعر وكأنها ستقع، لكنه بارع في الإمساك بكل الأشياء بثبات يشبه الارتجاف.

كان أولاد الحارة في جدة حين يعجبهم شخص ما يقولون في نشوة وبلهجة لا يتصورها إلا من عاش في الحجاز “أصلي” وحين خرجت إلى العالم سمعت الناس يسمون النبيل “أصيلًا” وأعتقد أني في سنتي الأخيرة عرفت الأصيل الأصلي.

رأي واحد حول “وجهٌ يكافح كي يضيء

  1. جدًا اثرت فيني هذي التدوينة بشكل لربما لا تتخيله .. كثيرًا ما أعبر قارئة وجوه الناس وأعمالهم وأنت أبدعت وأوجزت .. بارك الله في قلمك

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s