
“يأتون من بعيد والعديد منهم من أصحاب العيون البنية، بعضهم يخلف لون عينيه وراءه.. ويبحر بعيدًا، يعود إلى وطنه أو يغرق.”
أعود للتدوين مرة أخرى، مر بي شهران حافلان كنت فيهما أركض بلا توقف، هروبًا مرة ، وللحاق بما لا يلحق مرات أخرى، وانتهى بي هذا الركض أخيرًا إلى الحجاز!
انتقل عملي إلى إحدى المدن الصغيرة قرب مكة ليست قريبة منها، لكن مع بعض الجهد يمكن للإنسان أن يتردد بسيارته يوميًا إليها، ووقعت في حيرة الأختيار هل أسكن في هذا المركز الصغير وأجرب بعض الهدوء، أم أنفق ساعات كل يوم للظفر بالمقام في مكة، معادلة تستحق التأمل. وانتهيت إلى قرار تجربة أسبوع أسكنه بها ثم إن تحملت مشقة الطريق الطويل أقرر بعد ذلك.
حين دخلت وصلت حدود الحرم أغلقت تطبيق خرائط قوقل فأنا هنا خبير بطرقها، صحيح أن بعضها أغلق لكن في طرق هذه البلد طبع إذا عرفته ستعرف أين يشق أهلها مسالكهم المؤقتة، وهبت علي روح لم أعد أجدها في غير هذه المنطقة، الطرق الرئيسية الضيقة، والمارة الذين يقطعون الشوارع الكبيرة أمام المركبات، معلنين أن الأولوية هنا للقدم لا للعجلة، وأشياء أخرى لا يمكن وصفها بالقول.
نزلت في فندق حجزته عبر الانترنت بسعر جيد، ومثل طفلٍ مدهوش وقفت على نافذة الفندق طويلًا أتأمل الشارع الممتد أسفل مني وابتسم.
أثناء استعدادي للذهاب إلى الحرم أخرجت هاتفي لأطلب أوبر لكني خجلت كيف لكداد سابق في مكة أن يطلب أوبر للذهاب إلى الحرم، قطعت الشارع ووقفت أمام البيك وقلت لأقرب سيارة توقفت “الحرم لو سمحت”
في الليل اتجهت ناحية جامعة العزيزية لأزور مكتبة الأسدية، ولأن الشارع مزحوم بالسيارات التففت عند مطعم حراء ووقفت في الشارع الخلفي ثم نزلت على أقدامي ومررت أثناء مشيي على مكتبات تحمل أسماء حديثة ووجوه باعة مألوفة، وضع بعضهم ملصقًا ليخبر من يحن للأشياء القديمة مثلي أن الأسماء فقط التي تغيرت.
في إحدى المكتبات رأيت شاباً في أول العشرين يتفحص الكتب وعلى وجهه ابتسامة ساذجة كأنها ابتسامتي يومًا ما. دخلت الأسدية متخفيا خلف كمامة لا تبدو منها سوى عيني، وتصفحت الكتب الحديثة، وفاجأني عبدالرحمن البائع فيها حين سلم علي وقال لي كيف حالك يا فلان، لم أتوقع حقا أن يعرفني من خلف الكمامة والسنوات، اشتريت كتاب رضا زيدان (أزمة الفلسفة الأخلاقية) ثم خرجت من الأسدية والتففت يمينًا إلى (بيتزا الأصدقاء) أو (أميغوز) وفاء لصديقي أحمد الذي يحبها كثيرًا طلبت الطلب المعتاد ولكني أجد لذة كلذتها حين كنت طالبًا.
خرجت من المطعم وركبت سيارتي عازمٌ أن لا أسكن مكة وأن أستقر في المدينة الصغيرة حيث عملي؛ أفر من نفسي القديمة التي لقيتها هنا التي تبتسم بطريقة لا تعجبني وتقرأ كتبًا مختلفة، وتأكل البيتزا بفلفل حار وأنا لا آكله. أفر منها وأنا اسأل كم ذهب مني مع تلك الابتسامة الساذجة؟